The News Jadidouna

الرفاه والانسان الحديث

بقلم امل مخول

يعيش الفرد في المجتمعات الحديثة تناقضا بين أمرين، فمن ناحية، يرفض أي ذاتية قد تعيق المسار الذي تحاول أن تسلكه البشرية في بعده الكامل والمتكامل، فيخضع للثقافة التي يحاول العصر الحديث بثها وتسويقها والمبنية في جزء كبير منها على قيم الكمالية والجمال والسعادة والنجاح بكل أبعاد هذه القيم، وتنبذ هذه الثقافة كل ما من شأنه أن يعيق هذه القيم فتقدس تقدم الإنسان الفرد وتطوره وسعادته، بينما يبحث هذا الفرد من ناحية أخرى، على تأكيد الذات، والفردانية.
وفي بحثه عن تأكيد الذات والفردانية، يتبنى إنسان اليوم قيم الثقافة الجديدة القائمة على الأداء الجيد والتركيز على النجاح والتفوق، كذلك البحث عن الانجازات والتميز أما في سعيه إلى الفردانية فأنه يبحث عن الرفاه والسعادة والمتعة.
انطلاقا من هذه الأفكار، نحاول أن نتعرف على مفهوم الرفاه وعلاقته بالسعادة والمتعة، كذلك التعرف إلى أنواع الرفاه وتأثيره على الإنسان المعاصر.
تعريف الرفاه
يعرف الرفاه لغويا بأنه رغدُ الخصبِ ولين العيش. ويندرج كمفهوم ضمن المواضع المتعلقة بعلم النفس وتحديدا علم النفس الإيجابي، الذي من أولى أهدافه اكتشاف العوامل التي تساهم وتساعد في رفاه الإنسان.
يعتبر سيليغمان أن من بين العوامل التي تسهم في خلق الرفاه النفسي المشاعر الإيجابية، الإنخراط في نشاطات محددة، وجود علاقات جيدة مع أشخاص آخرين، العثور على معنى في الحياة، والشعور بالإنجاز عند السعي لتحقيق الأهداف.
المسار التاريخي لبلورة مفهوم الرفاه:
لقد حاول الفلاسفة والسياسيون أن يدرسوا مفهوم الرفاه طوال قرون عدة، إلى أن تبنت بلدانًا عدة في العالم المتطور هذا المفهوم في محاولة لتطبيقه في سياساتها، حيث نظمت نفسها في النصف الأخير من القرن العشرين، وذلك بهدف تحقيق “الرفاه” لسكانها.

كان هذا المصطلح إذا يتعلق فقط بالسياسيين والفلاسفة ويختصر فقط بتأمين الرفاه لشعوب الدول المتطورة. ولم يكتسب المعاني المتنوعة الحديثة إلا بمرور الوقت، حيث تضمنت دلالاته الشائعة المتعددة مثل الاكتفاء المادي، الرخاء، انعدام الظروف السلبية، الصحة الجسدية والنفسية، إشباع الرغبات وتوفير الحاجات، من ضمن سياق يأخذ بعين الاعتبار الخدمات المنظمة للمحتاجين بشكل خاص وللسكان على نطاق أوسع.

ولا انفصال بين معنى الرفاه والأفكار الفلسفية والمواقف الأخلاقية من جهة، وبين السياسات والمؤسسات السياسية من جهة أخرى. وقد بذلت المؤلفة ماري دالي جهداً كبيراً في البحث عن مفهوم “الرفاه” في عدد من المجالات، منها الاقتصاد الكلاسيكي الحديث الذي ارتبط مفهوم الرفاه فيه بالمنافع المتبادلة المستندة إلى السوق، وعلى صعيد الفلسفة وعلم السياسة تطور المفهوم باعتباره مبدأ أخلاقياً. أما على صعيد العمل الاجتماعي، فارتبط الرفاه بفاعلية المؤسسات الاجتماعية ومدى استجابته المنظمة للعوز. ولم يغفل هذا التتبع المستوى السلبي لمفهوم الرفاه “الفاسد” في الولايات المتحدة، الذي ارتكز على سلوك أولئك الذين يتلقون الإعانات الحكومية.
من هنا جاء المصطلح العالمي “دولة الرفاهية” في القرن العشرين والتي استقرت بين حدين: تكافؤ الظروف وتكافؤ الفرص، كما ذكر وليام تمبل في كتابه “المواطن ورجال الكنيسة” (1941).

الفرق بين الرفاه وبين السعادة والمتعة

تستخدم اللغة اليومية مصطلحات الرفاه والسعادة والمتعة بشكل متداخل فتمزج بينها، فيما نجد أن هناك اختلافا في المعاني بين المصطلحات الثلاث خاصة في المسارات التقنية مثل الفلسفة وعلم النفس.

تُعرّف المتعة مثلا بأنها التجربة التي تمنح المرء شعورًا جيدًّا وتُعتبر مكونا من مكونات الرفاه، بينما تعرف السعادة بأنها ” تحقيق توازن تفوق فيه التجارب السارة التجارب غير السارة” أو أنها حالة من الرضا عن الحياة ككل، وتعتبر أيضا مكونا من مكونات الرفاه. فالرفاه إذًا يضم كلاًّ من المتعة والسعادة وهو مفهوم أشمل من كليهما. وتحاول نظريات الرفاه تحديد ما هو ضروري لكل أشكاله. أما نظريات الرغبة فترى أن الرفاه ينشأ عن تحقيق الرغبة، وكلما ارتفع عدد الرغبات المحققة، زاد الرفاه. بينما يساوي مذهب اللذة بين الرفاه وتوازن “المتعة تفوق الألم”.

أنواع الرفاه
أولاً: الرفاه الاجتماعي
الرفاه الاجتماعي هو حالة نهائية تلبى فيها معظم الاحتياجات الانسانية الأساسية حيث يصبح الناس قادرون على التعايش بسلام في المجتمعات المحلية مع إتاحة الفرص للتطور والتقدم. ومن أهم ميزات هذه الحالة النهائية المساواة في الحصول على الخدمات والاحتياجات البديهية وتأمينها مثل المياه والغذاء والسكن والخدمات الصحية، بالإضافة إلى توفير التعليم للجميع خاصة التعليم الإبتدائي والثانوي. كما يندرج مفهوم الرفاه في عودة النازحين إلى أوطانهم أو إعادة توطينهم في حالات النزاعات العنيفة في بلدانهم الأصلية، واستعادة النسيج الاجتماعي والحياة المجتمعية.
الرفاه النفسي:

يعرَّف الرفاه النفسي اصطلاحًا: أن يشعر الفرد بأنه على ما يرام من الناحية النفسية، أي أنه يتمتع بالصفات والقدرات التي تجعله قادرًا أن يتخطى الظروف الصعبة ويتفوق على الصعوبات بنجاح مقارنة مع غيره (ديه، 2012:3) فالرفاه النفسي هو القدرة على المشاركة الهادفة في الحياة، كما أنه يتمظهر بحالة الرضا النفسي والأداء النفسي الأمثل والوصول إلى أعلى مستوى محتمل.
للرفاه النفسي ستة أبعاد: الاستقلالية، التمكن البيئي، النمو الشخصي، العلاقات الإيجابية مع الآخرين، الحياة الهادفة وتقبل الذات.

 

يعتبر ديه (2012) أن الرفاه النفسي هو حالة من السعادة لكنه لا يعني بالضرورة السعادة، كذلك لا يعني الدلال والترف والرفاهية، والمرفهون نفسيًا ليسوا اولئك الناس الذين تخلو حياتهم من المشكلات أو من الاضطرابات والأمراض، وإنما هم اولئك الذين يملكون صفات تجعلهم قادرين على الاستمرار مقارنة مع غيرهم من الناس الذين قد لا يتحملون الصعوبات على أنواعها، وصفات تجعلهم قادرين على مواصلة حياتهم بهناء وطمأنينة رغم الظروف القاسية. أما بالنسبة (للخنيجي، 2006:23) فيقصد بالرفاه النفسي الانشغال بالتحديات الوجودية للحياة مثل تحقيق الذات.

يُعرّف Shek (1992) الرفاه النفسي بأنه حالة الشخص السليم عقليًّا الذي يتمتع بصفات إيجابية كمثل التكيف الفعال مع البيئة ووحدة الشخصية. أما ريان ودسي (2001) فيعتبران أن الرفاه النفسي يعتمد على القدرة على الانخراط في الأنشطة التي تتماشى مع الاهتمامات والأهداف في حياة الفرد وحاجاته النفسية الأساسية (Machado, Desrumaux, Van Droognebroeck, 2016 : 22).

وفقا (لهيبر 2005) فالرفاه النفسي يظهر بقدرة الفرد على الشعور بالرضا عن النفس والعمل بفعالية، وتعتقد بأن الشعور الجيد ليس فقط وجود مشاعر إيجابية كالرضا والسعادة وإنما أيضا وجود المودة والثقة والاهتمام والمشاركة وشعور المرء بالسيطرة على حياته وقدرته على استغلال كل إمكاناته وسعيه لحياة هادفة وإقامة علاقات إيجابية مع الآخرين ( Suresh, Jayachaner & Joshi, 2013 : 121).

اما أماني عبد المقصود (2006) فقامت بترجمة الرفاه النفسي إلى السعادة النفسية وهو شعور داخلي إيجابي دائم يعكس الرضا عن الحياة والطمأنينة والبهجة والإستمتاع والضبط الداخلي وتحقيق الذات والقدرة على التعامل مع المشكلات والصعوبات بكفاءة وفعالية (شند، سلومة، هيبة، 2013: 276)

الرفاه الاقتصادي
تفهم الرفاهية الاقتصادية بانها حالة الثروة المستمدة من علاقة مباشرة الإنتاج والعمالة وتوزيع الدخل في بلد ما. ومن وجهة نظر أخرى يعتبر الرفاه الاقتصادي موجودا حيث يتم تعظيم الرفاهية الاجتماعية من خلال النمو الاقتصادي. وبالتالي ، فإن معظم الناس في الدولة لديهم عمل ، حتى يتم الوصول إلى البطالة الهيكلية (ما بين 4٪ و 5٪ تقريبًا). بالإضافة إلى ذلك ، هناك توزيع فعال للدخل ، أي أنه لا يكاد يوجد أي تفاوت اقتصادي ويتمتع جميع المواطنين بالفرص نفسها.

يتم قياس الرفاهية الاقتصادية من خلال دخل الفرد، أي كمية السلع والخدمات التي ينتجها في المتوسط مواطن في بلد ما. يقع توزيع الدخل أيضًا ضمن الرفاه الاقتصادي، حيث يؤدي التوزيع الأكبر والأفضل إلى توليد مجتمعات أكثر ازدهارًا، على عكس تلك الدول التي توجد فيها فجوة كبيرة بين الأغنياء والفقراء.

الرفاه المدرسي
يعرف “الرفاه المدرسي” بأنه شعور الطلاب وأولياء أمورهم والمعلمين والعاملين في المدرسة بحالة من الرضا والاطمئنان، ما ينعكس ايجابًا على دورهم في المدرسة وعلى تحقيق النجاح المدرسي التربوي للطلاب على المدى البعيد. ويدخل ضمن مفهوم الرفاه التربوي مفاهيم أخرى كالتعليم الايجابي، التعليم الإبداعي والتعليم المرح. كما يعتبر الرئيس السابق للمركز التربوي للبحوث والإنماء الأستاذ جورج نهرا، “الرفاه النفسي-الاجتماعي ركيزة من ركائز التعلم السليم، وهو أمر ضروري لتحقيق النجاح الاكاديمي، ولتعزيز التطور العلمي والمعرفي لدى المتعلمين، ويؤثر تأثيرا هاما في رسم آفاق المستقبل لديهم.

وقد ركزت الدراسات الحديثة في أهمية تأمين البيئة النفسية والاجتماعية الآمنة للمتعلمين، ونقل العملية التعليمية التعلمية من الإطار التقليدي حيث التركيز في البعد المعرفي بأساليب تقليدية تلقينية. إلى التركيز في الأبعاد النفسية والاجتماعية والمعرفية باساليب حديثة كأساس في نمو المتعلم وتطور شخصيته.

وبالرغم من أهمّيّة الرفاه المدرسي، لم يحظ هذا المفهوم باهتمام حقيقيّ إلّا بعد جائحة كورونا، نتيجة انعكاساته على الأفراد في المدرسة لناحية اندماجهم ودافعيّتهم وحماسهم، وكذلك على سير العمليّة التعليميّة بشكل عامّ. وفي مختلف الظروف، من الضروريّ أن تتحمّل المدرسة – بجميع مكوّناتها – مسؤوليّتها الدائمة تجاه تطوير بيئة مدرسيّة إيجابيّة وآمنة بشكل يعزّز الرفاه النفسيّ والاجتماعيّ والأكاديميّ للطلّاب والأهل والعاملين فيها، ويضمن اندماجهم بشكل فعّال وعادل. وتطوير هذه البيئة نتاج لسيرورة وآليّات مؤسّساتيّة، بدءًا من قوانين العمل والسياسات والبرامج التربويّة الحكوميّة، مرورًا بدور الإدارات المدرسيّة في تحسين ظروف العمل، ومراجعة خططها وسياساتها وبرامجها ومناهجها وتعديلها بما يتناسب واحتياجات طلّابها ومعلّميها، وتفعيل دور الإرشاد النفسيّ والاجتماعيّ، وتمكين المعلّم وتفهّم خلفيّة الأهل وتحقيق اندماجهم، وصولًا إلى دور المعلّم في تعزيز رفاه الطلّاب من خلال الأدوات والطرق والاستراتيجيّات وآليّات التواصل والتفاعل المستخدمة والمُطوّرة والمعدّلة داخل الصفّ وخارجه. وقد يكون التحدّي أكبر في سياق الأزمات والواقع الذي تفرضه من أوبئة وحروب وغيرها، ما يتطلّب إعادة هيكلة السياسات والبرامج والخطط المدرسيّة لمواءمتها مع متطلّبات الواقع ومستجدّاته.

ومن أهم أنواع التعليم التي تدخل ضمن مفهوم الرفاه:

التعليم الإيجابي هذا النهج التربوي- التعليمي المعاصر الذي يعتمد على رؤية علم النفس الإيجابي، وهو الدراسة العلمية للازدهار البشري والأداء الأمثل، ويركز على نقاط القوة والفضائل التي تمكن الأفراد والمجتمعات والمؤسسات من النجاح. يتم تعليم الطلاب القيم الإنسانية الأساسية كالتقاسم، واحترام البيئة، والخدمات المجتمعية

التعليم الإبداعي وهو عملية تساعد الطلاب على امتلاك الاحساس بالمشكلات وجوانب النقص والثغرات في المعارف أو المعلومات واختلال الانسجام وتحديد مواطن الصعوبة وما شابه ذلك، والبحث عن الحلول والتنبؤ وصياغة فرضيات واختبارها وإعادة صياغتها أو تعديلها من أجل الوصول إلى نتائج جديدة ينقلوها إلى الطلاب الآخرين.

التعليم المرح الذي يهدف إلى استخدام وسائل تعليمية ممتعة، بهدف جذب الطالب واستحضار ذهنه بشكل دائم، وإكسابه معلومات متنوعة له، والعمل على غرس سلوك حميد وإيجابي.

من خلال كل ما تقدم نؤكد أن الرفاه بكافة مكوناته النفسية، الاجتماعية، الاقتصادية والتربوية، أمسى حاجة للفرد في المجتمعات الحديثة القائمة على النزعة الفردية التائهة بين الأنا والذات من جهة، وعلى ضياع الهوية الفردية في سعيها لتأكيد وجودها من خلال الآخر. وما وسائل التواصل الإجتماعي سوى الدليل لهذا الضياع بين فردانية الانسان من ناحية وصورته عن ذاته المرتبطة بنظرة الآخر إليه من ناحية أخرى.

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

Privacy & Cookies Policy