
البروفِسور بيار الخوري*
يَشهَدُ العالمُ اليوم واحدةً من أكثر المواجهات تعقيدًا وخطورةً بين قوى إقليمية كبرى: إيران وإسرائيل، وخصوصًا بعد الغارات الأميركية الجوية والصاروخية التي أطلقتها إدارة دونالد ترامب مساء أمس على ثلاثة مواقع نووية إيرانية: فوردو ونطنز وأصفهان، وذلك على الرُغم من أنَّ 60% من الأميركيين يُعارضون انخراط الجيش الأميركي بالصراع الحالي الدائر بين طهران وتل أبيب حَسبَ استطلاعٍ للرأي أجرته مجلة الإيكونوميست بالتعاون مع مؤسسة “يوغوف” ونشرته هذا الأسبوع. وبينما كانت الحروب السابقة لإسرائيل تحظى بدعمٍ واضحٍ من الرأي العام الغربي، يبدو هذا الدعمُ غائبًا في وجهِ الصواريخ الإيرانية. هذه المُفارقة تستحقُّ التوقُّف عندها لفَهم التحوّلات في سيكولوجية الرأي العام تجاه أطرافِ الصراعِ في الشرق الأوسط.
يَرتَبِطُ التعاطُف الإنساني في المجتمعات الغربية غالبًا بصُوَرِ الضحايا المدنيين من أطفالٍ ونساءٍ وكهول، والدمار المباشر. في حالةِ غزة، يكونُ السياقُ واضحًا: شعبٌ مُحاصَرٌ تحتَ القصف، مما يستفزُّ المشاعر الإنسانية. أما الهجمات الإيرانية على إسرائيل، فتغيبُ عنها الرمزية الإنسانية، وتَظهَرُ كضرباتٍ صاروخية بين قوّتين. غيابُ صُوَرِ الضحايا أو الدمار يَخلُقُ فراغًا عاطفيًا لا يملَؤُهُ أيُّ خطابٍ سياسي.
إيران بدورها مرّت بتحوُّلاتٍ مُتناقضة في موقعها داخل الوعي الغربي. من “محور الشرّ” إلى شريكٍ ضمن “خطة العمل الشاملة المشتركة” (اتفاق 5+1) إلى شريكٍ مرّةً أُخرى في مكافحة تنظيم “داعش”، ثمَّ طرفٍ تفاوضي مرّةً أُخرى حول الملف النووي. هذا التذبذب السردي خلق ارتباكًا في الموقف الشعبي، بحيثُ لم تَعُد إيران تُمثّلُ الشرَّ المُطلَق، لكنها أيضًا لا تحظى بصورةِ الضحية. الرأي العام أصبحَ يراها كقوةٍ إقليمية لها حساباتها، بدون عواطف حادة تجاهها.
في الوقت نفسه، وَلّدَ الاحتكاكُ المُستَمِرُّ بالحروب في الشرق الأوسط حالةً من الإرهاق لدى الرأي العام الغربي، الذي باتَ يرى هذه النزاعات كصراعاتٍ لا نهايةَ لها بين قوى متنازعة. إسرائيل، التي طالما صُوِّرَت كدولةٍ صغيرةٍ مُحاطةٍ بالأعداء، بات يُنظَرُ إليها كقوةٍ عسكرية مُتفوِّقة. أما إيران، فهي دولة ذات نفوذٍ إقليمي، ما يجعلُ الصراعُ يبدو كنزاعٍ بين نَدَّين، لا يستدعي تعاطُفًا مع طرفٍ على حسابِ الآخر.
يُضافُ إلى ذلك الخوفُ من تصعيدٍ شامل، خصوصًا في ظلِّ الانخراطِ الغربي في أوكرانيا، مما يجعلُ المجتمعات الغربية، والأوروبية بشكلٍ خاص، أقل تحمُّسًا لدعمِ عملياتٍ قد تُفجّرُ المنطقة بأكملها. الرأي العام بات أكثر وعيًا بثمن الحروب المفتوحة، ولم يعد يُستثار بسهولة للدخول في مغامراتٍ جيوسياسية.
ومن ناحية أخرى، فقدت إسرائيل جُزءًا كبيرًا من قدرتها على تقديم نفسها كضحية دائمة. مع تصاعد التغطيات الإعلامية لانتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين، وحتى عندما تتعرّضُ لهجوم، يَنظُرُ إليها كثيرون كطرفٍ يملك القوة العسكرية والتفوُّق التكنولوجي، ما يُخفّفُ من فعالية سردية المظلومية التي لطالما اعتمدت عليها في استقطابِ الدعم.
الصمتُ أو الفتور الذي يواجه الهجوم الإيراني على إسرائيل لا يَعكُسُ تعاطفًا مع إيران، بقدر ما يَكشُفُ عن تحوُّلاتٍ عميقة في سيكولوجيا الرأي العام العالمي. هذا التحوُّل لا يرتبطُ فقط بتغيُّرِ مواقف تجاه أطراف الصراع، بل بتغيُّرٍ أوسع في فَهمِ الشعوب الغربية للعالم، ولما يُستحق الدعم أو الإدانة. في عالم مُتعدّد الأقطاب ومُثقَل بالحروب، يُصبحُ التعاطف أكثر حذرًا، وأكثر خضوعًا لمنطق الشك والتحليل، لا الانفعال.