اخبار لبنان - Lebanon News

التجنيس في لبنان: السلاح الصامت لتفكيك الدولة

لم يكن التجنيس في لبنان يوماً مجرّد إجراء قانوني عادي. في بلد تُرسم فيه التوازنات على أساس الطوائف، تحوّلت الجنسية إلى أداة سياسية لا بل وأخطر من ذلك إلى وسيلة اختراق داخلي ناعم، يُعيد تشكيل الخارطة السكانية طوعاً لخدمة مشروع سلطوي أو إقليمي.

البداية من مرسوم 1994، الصادر عن الرئيس الياس الهراوي، والذي منح الجنسية لما يفوق 202,000 شخص. كان العدد صادماً، لكن الأخطر من العدد هو توزيع الطوائف: السنة وحدهم نالوا 118,295، والشيعة 28,425، والعلويون 7,954، والدروز 4,337، بينما الموارنة لم يحصلوا سوى على 2,725، وسائر الطوائف المسيحية مجتمعة على نحو 40,000 فقط. النتيجة: نحو 159,000 مسلم مقابل 43,000 مسيحي. الأرقام تتكلم بوضوح: تجنيس سياسي بامتياز، هندسة ديموغرافية موجهة، وإعادة إنتاج لتوازنات ما بعد الطائف، لا علاقة لها بمعايير العدالة أو الوطنية.

ولأن السجال حول هذا المرسوم لم يتوقف، تقدّمت الرابطة المارونية بطعن إلى مجلس شورى الدولة، لكنه بقي عالقاً كما هي عادة الطعون التي تمس مصالح النظام السياسي القائم، حينها السوري – الإيراني.

البطريرك نصرالله صفير، في مذكراته التي غطت مرحلة 1992 – 1998، وثّق هذا الخطر مبكراً. فقد نبّه بوضوح إلى أن بعض القوى السياسية مستعدة للتفريط بالمصلحة الوطنية مقابل مكاسب آنية، سواء سياسية أو مالية، وحذّر من أن منح الجنسية خارج الأطر الدستورية والمصلحة العليا من شأنه تغيير التركيبة السكانية وضرب قاعدة التوازن الوطني. رؤية صفير لم تكن نظرية أو عاطفية، بل تعبيراً عن إدراك دقيق لما تعنيه الجنسية من ثقل سيادي وانتماء وطني.

مرسوم 1994 لم يكن الاستثناء، بل النموذج. ففي عام 2018، أصدر الرئيس عون مرسوماً جديداً وقع عليه سعد الحريري ونهاد المشنوق، وتضمن أسماءً أثيرت حولها علامات استفهام أمنية ومالية، بعضها يرتبط مباشرة بأنظمة إقليمية، وبعضها مشمول بعقوبات دولية. وكما حصل في 1994، لم يُعرض المرسوم على النقاش العام، ولم يمرّ عبر آليات رقابية، بل تم تمريره بهدوء ومن خلف الكواليس. ففي نهاية عهد الرئيس ميشال عون، كشف مصدر في القصر الجمهوري أن الرئيس ترك لائحة بـ 5000 اسم كان يُفترض أن تُمنح الجنسية ضمن مرسوم جديد. اللائحة لم تصدر لأن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الداخلية بسام مولوي رفضا التوقيع، بعد تقرير صحافي فرنسي خطير نُشر في “ليبراسيون”، كشف عن صفقة محتملة لبيع 4000 جواز سفر لبناني مقابل ما بين 50 و100 ألف يورو. رغم النفي الرسمي، فإن المعطيات السياسية والإدارية أثبتت أن مرسوماً كان يُحضَّر، وأن المستفيدين الحقيقيين من مكتومي القيد والمقيمين الشرعيين حُذفوا مجدداً من المشهد لصالح مشروع سياسي أو مالي غامض.

المشكلة لا تقتصر على الطابع السياسي أو الطائفي لهذه السياسات، بل تتجاوزها إلى التأثير المباشر على صناديق الاقتراع. في الانتخابات البلدية في منطقة الجديدة – البوشرية – السد، رُصدت حالات استقدام مجنسين حديثاً لا يعرفون شيئاً عن طبيعة المعركة ولا عن المرشحين، جاؤوا فقط لتنفيذ عملية تصويت موجهة. هذا ليس فقط تلاعباً، بل تزويراً ناعماً لإرادة الناخبين، ويؤكد أن التجنيس يُستخدم لتعديل موازين القوى حتى في المعارك المحلية.

كل ذلك يعزز قناعة راسخة: ما يُمارَس في لبنان في ملف التجنيس ليس تعبيراً عن سيادة، بل عن خضوع. وليس استيعاباً قانونياً لمن يستحق الانتماء، بل تسويقاً للهُوية الوطنية في المزادات السياسية. إنه شكل من أشكال الاحتلال الناعم الذي لا يدخل بدبابات، بل بورقة هوية، يغيّر التوازنات، ويحوّل الكيان إلى مساحة رخوة قابلة للاختراق من الداخل.

لهذا، لا يمكن السكوت على هذا المسار. المطلوب اليوم ليس فقط وقف كل مراسيم التجنيس، بل مراجعتها واحدة تلو الأخرى، من عام 1994 حتى اليوم. على الدولة أن تُشكّل لجنة قضائية وطنية مستقلة تُدقّق بكل اسم، وتلغي كل تجنيس ثبت أنه سياسي أو مالي أو غير مستند إلى معايير قانونية واضحة. ويجب إقرار قانون عصري موحد للجنسية، يمنع التلاعب، ويضع حداً نهائياً لهذه السوق السوداء التي تُباع فيها الهويات.

ليست الجنسية اللبنانية ورقة، بل مسؤولية سيادية. وليست “مكرمة رئاسية” بل هي تعاقد وطني. وما لم تُقفل هذه الثغرة، لا معنى لأي حديث عن الدولة أو السيادة أو الإصلاح.

إيلي الياس – نداء الوطن

زر الذهاب إلى الأعلى