اقتصاد

مواقع التواصل الاجتماعي بين الذات والأنا

كتبت امل مخول :

أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي حاجة أساسية للملايين من البشر وجزءًا لا يتجزأ من هوياتهم وذواتهم، وقد سلطت الكثير من الدراسات والأبحاث الحديثة الضوء على العلاقة الوثيقة بين استخدام هذه المواقع والعديد من الاضطرابات النفسية مثل النرجسية، الأنانية، العظامية، الأنا المضخمة وخلق هويات وذوات مزيفة وبالتالي حياة غير حقيقية وواقعية وغيرها الكثير الكثير من المشاكل.

لكل هذه الأسباب ارتأيت عنوانًا لهذه المقالة “مواقع التواصل الاجتماعي بين الذات والأنا”، ولكن وقبل الخوض في موضوع مقالتنا، لا بد من تعريف كل من الذات والأنا وعلاقتهما بهذه المواقع.
– تعريف الأنا: يعرِّف علاء الحسون، الأنا بأنّها البناء النفسي الذي يتوسط بين العقل الواعي واللاواعي ويساعد الأفراد على فهم تجاربهم. يمكن أن تكون الأنا مصدرًا لاحترام الذات والشك بالنفس
تعريف الذات: تشير الذات إلى الهوية العامة للافراد، وتشمل أفكارهم ومشاعرهم وقيمهم ومعتقداتهم، وتمثل مفهومًا أوسع وأكثر استقرارًا للهوية الشخصية. (علاء الحسون)

– أما الفرق بين الأنا EGO والذات SUBJECT هو أن كلَّ فرد يولد بأنا هي طبيعته وقدراته المعرفية وطاقته العصبية… أما الذات فهي كما تلاحظون باللغة اللاتينية تعني الفاعل؛ أي تعني الأنا عندما تتموضع في سياق فتنتج فاعلاً وفعلاً. أي ما تكسبه من مهارات تصقل به أناها.
الأنا هي أن تأتي في محيط عائلة ما فتشكل عقلك -الأساس (القاعدة Base) ولكن الذات هي ما تخلقه لنفسك من ثقافة مضادة أو منعتقة من العقل-الأساس، أي ما تكونه فاعلاً بإرادتك وما تضفيه على نفسك من ثقافات تٌهذّب، فالثقافة تهذيب. ( د. عماد فوزي شعيبي)

السؤال إذا الذي يطرح نفسه، ما هي العلاقة بين استخدام مواقع التواصل الاجتماعي والمشكلات النفسية التي تحدثنا عنها أعلاه وربط كل ذلك بالأنا والذات؟

وفقا للكثير من علماء النفس، تنشطر الذات الفردية إلى نوعين مختلفين؛ “الذات الواقعية” و”الذات المتخيلة” أو ما يسمى أحيانًا “الذات الممكنة”، وهي تلك التي يسعى إليها كل فرد ويحلم أن يكون عليها، فيعمل كل إنسان لردم الفجوة بين هاتين الذاتين “الواقعية” و”المتخيلة” بأساليب مختلفة، ليصبح أقرب إلى الذات المتخيلة.
تعمل إذا مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، انستغرام، وغيرها) على تشجيع الأفراد للوصول إلى ذواتهم المتخيلة، ولكن بطرق غير صحية وغير سليمة تقترن بشكل مباشر بالعديد من الاضطرابات النفسية والعقلية، مثل ادّعاء شخصية ما، أو نسب صفةٍ وتعريفٍ ما كأنْ يسمّي نفسه كاتبًا أو أديبًا أو صانع أفلام أو خبيرًا نفسيًّا، وهو لا يمُّتْ لتلك المجالات بأيّ صلةٍ كانت.

ومن الأسباب التي توصلت إليها الدراسات لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، أن الكثير من الأفراد يفتقرون لشيءٍ ما في حياتهم الحقيقية سواء على المستوى الشخصيّ أو على مستوى العلاقة العاطفية أو العملية أو الاجتماعية، لذلك فإنّهم يبحثون عن طريقة تجعلهم يعيشون ما يفتقرون إليه ويعجزون عن تحقيقه والتعويض عن أوجه القصور التي يواجهونها في ذواتهم وحياتهم الشخصية من خلال خلق صورةٍ منمّقة عن أنفسهم على تلك المواقع، وعيش ذواتهم المتخيلة أو ذواتهم الممكنة.
ينمّي أولئك الأفراد شعورًا نرجسيًّا كبيرًا يدفعهم أكثر فأكثر للظهور خاصّة بعد الْتِمام آلاف أو مئات الآلاف من المتابعين أو الجمهور، الذين يصبحون شيئًا فشيئًا أشبه بالقطيع لهم، يصدّقون كلّ ما يكتبون وينبهرون بهم وبصورهم وبحياتهم، ثمّ يبدأون بحسدهم أو تمنّي ما هو عندهم.
وقد وجد باحثون من جامعة نورث وسترن الأميركية أن الأشخاص الذين يستعملون وسائل التواصل بشكل مفرط، فينشرون كثيرا عن أنفسهم وعلاقاتهم، لديهم شعور بعدم الأمان في حياتهم الواقعية خاصة في علاقاتهم كما يعانون من مشاعر شركائهم تجاههم، فكلما كانت علاقاتهم سيئة بشركائهم وكلما افتقدوا للشعور بالأمان، كانوا يلجأون إلى جعل علاقاتهم ظاهرة أكثر للآخرين في فيسبوك أو انستجرام. لأنهم وباختصار يحاولون من خلال نشر صورهم وتفاصيل حياتهم إقناع الآخرين بعلاقتهم الصحية، غير أنهم بالأصل وبشكلٍ لا واعٍ يسعون لإقناع أنفسهم بذلك، إنها حيلة لإقناع الجميع بحبّهم وانسجامهم لكنها في الحقيقة مجرّد وسيلة لخداع أنفسهم في التفكير بأنهم سعداء ويشكّلون ثنائيًّا رائعًا مختلفًا عن البقية.

ولكي نفهم أكثر أسباب التعرض كثيرا لمواقع التواصل وعرض الأشخاص التفاصيل عن حياتهم، علينا أن نتوسع أكثر بالتمييز بين الأنا والذات، كما أنه من الضروري مثلا معرفة الاضطرابات النفسية المتعلقة بالأنا والتي أبرزها النرجسية. فمن هو النرجسي؟
النرجسي هو ذلك الشخص الذي طغت عنده الأنا وتضخمت فهام حباً في صورتها. ولهذا فالكثير منهم لديه شخصيتين، ويتعجب من يعرفهم عن قرب من التحول الذي يحصل في شخصيته، وكأنه يحمل داخله شخصين لا واحد. هو يضع قناعاً اجتماعياً يتوافق مع ما يظن أنه الوضع المثالي، وفي الخفاء يطلق لطفله المحروم من الحب والاهتمام العنان! تجد بعضهم يظهر بمظاهر التقوى والورع والزهد أمام الآخرين بينما عندما يخلو له الجو يمارس كل أنواع الرذيلة ولا يشعر بتأنيب من ضمير اذا دعته المصلحة لاستغلال غيره والصعود على أكتافهم.
لهذا فالنرجسي لا يعترف بأخطائه ويظن نفسه كاملاً ويبرر لنفسه، فقد اعتاد لبس القناع وهذا بزعمه كافي!
لذلك تعرف النرجسية بالأنا المتضخمة أو الانغماس في حب الأنا. وهو ما يجعل النرجسي يظن نفسه أهم من المجتمع ويعتقد أنه قادر على خداع الجميع. وربما تشكل مواقع التواصل الاجتماعي المكان المفضل للنرجسي كي يُظهر أناه المتضخمة فيضع هذا القناع الاجتماعي المتوافق مع ما يريد أن يظهره عن نفسه من مثالية. هذه الأنا التي ضخمها وعمل على تغذيتها بحيل وأكاذيب خادعة، لذلك نقول أن النرجسي بطبعه أناني وهناك فرق كبير بين حب الأنا وحب الذات.

فحب الذات في الإنسان يختلف تماماً عن حبّ الأنا، لأنّ حبّ الذات غريزة فطرية مغروسة في وجود جميع بني آدم، لكن الأنانية وحبّ الأنا حالة مرضيّة تعتري الأنسان نتيجة ابتلائه برؤية خاضعة للوهم تدفعه إلي توكيد مبدأ الفردانية والتمركز حول الأنانية والنظر إلي الحياة بمنظار المنفعة الخاصّة.
فحب الذات بمعنى تحقيق التوازن والانسجام بين الأنا العليا والهو دون أن يضطر الشخص للتظاهر بغير ما هو عليه في حقيقة الأمر هو الأمر الطبيعي عند البشر. فالبشريّة كلّها تحبّ ذاتها، وهذا لا يعني أن جميع الناس لديهم أنانية، بل الأنانية تعني عدم الاهتمام بشيء سوي محبّة النفس ونيل منفعتها الخاصّة ولو علي حساب الآخرين. بينما الإنسان السوي يحبّ ذاته، وفي نفس الوقت يحبّ ويحترم ذات الآخرين ولا يبخل في إرادة الخير لهم، لأنّه لا يري في الآخر غيراً وندّاً مزاحماً له، بل يري في الآخر غيراً ومكملاً له.

وأيضاً من فوارق حبّ الذات وحبّ الأنا، أنّ الذي يحبّ ذاته بعكس الأناني لا ينطلق في بحثه عن الخير والصفات المحمودة من منطلق حبّ التفوّق علي الآخرين وإحراز الغلبة عليهم، وانّما ينطلق نحو الصفات الإيجابية من دون النظر إلي الآخرين.
أن تحب ذاتك لا يعني تقديسها ، ولا تنزيهها عن العيوب بل على العكس تقبلها بما فيها من نواقص وعيوب. وبالتقبل تبدأ شيئاً فشيئاً في تهذيبها. هذا لا يتعارض أيضاً مع الذكاء الاجتماعي وأن لكل مقام مقال لكن بحدود فلا تهميش تام للذات الفردية، ولا انسلاخ كامل عن القيم الاجتماعية، بهذا المعنى فمن يحسن تقدير ذاته لا يحتاج لانكار عيوبها لكنه قادر أيضاً على تلمس احتياجاتها والعناية بها واستثمار مزاياها. كما أنه لن يضطر للتظاهر بما لا يملك صقل الشخصية يكون بخلق التوازن والانسجام بين دوافعها ورغباتها ومبادئها وأخلاقها.
وهنا تلعب مواقع التواصل الاجتماعي الدور الكبير في تشجيع التظاهر بعكس ما نحن عليه وبما لا نملك! فالجميع عبر هذه المواقع هو الأجمل، الأذكى، الأغنى والأفضل. ومن المؤكد أن جُلّ ما نراهم حولنا هذه الأيام ونقرأ ما يكتبون على الفيس بوك هم ” أنوات EGOS” وليسوا “ذواتSUBJECTS” يدارون بعقل الأنا لا بعقل الذوات.

أهم الأسباب التي تجعل الأفراد يشاركون منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي:

في دراسة أجرتها صحيفة نيويورك تايمز حول مشاركة المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي قال 68% من المشاركين أنهم يشاركون منشوراتهم لمنح الآخرين شعورا أفضل حول من هم ما هي اهتماماتهم. ويمكن فهم هذه السلوكيات من خلال الشرح الذي قدمه عالم النفس الراحل كارل روجرز الذي يعتبر أن الافراد بحاجة لإبراز الهوية حيث يسعى معظمهم للتصرف بطريقة تقرب ذواتهم من المثالية، وبالتالي يمكن اعتبار المحتوى الذي يشاركه الفرد بمثابة تعبير وانعكاس للشخصية التي يرغب في أن يظهرها للآخرين، كأن ينشر الشخص مقطعا موسيقيا للتعبير عن ذوقه الموسيقي، أو ينشر نصًّا فلسفيًّا كي يعبر عن المستوى الثقافي الذي يتمتع به.

كما ذكرت مجلة علم النفس الاجتماعي التجريبي أيضا أن مشاركة المنشورات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، قد تمنح الأشخاص ردود فعل ايجابية تعزز ثقتهم بأنفسهم، وكلما زادت مشاركتهم على مواقع التواصل، حصلوا على المزيد من الإعجابات والتعليقات والمتابعين، وبالتالي الشعور بالمزيد من الثقة، مما يشجعهم على مواصلة نشر المحتوى، للحصول على المزيد من التعليقات والآراء الإيجابية في المقابل.

وهناك سبب آخر لمشاركة المنشورات على مواقع التواصل وهو يتلخص بأن البشر كائنات اجتماعية، لذلك نراهم يسعون لإقامة علاقات اجتماعية ويرغبون بالحفاظ عليها، وتمثل ربما مواقع التواصل المكان المثالي لهم لتقوية العلاقات مع الآخرين مما يشكل دافعًا آخر للمشاركة، خصوصًا إذا اخذنا بعين الاعتبار أن الحياة في العصر الحديث تسير على وقع سريع جدا فالمشاغل والمسؤوليات، والوقت المحدد يمنع الناس من الالتقاء، فتوفر مواقع التواصل لهم وسيلة مناسبة للبقاء على تواصل.

يحتاج الانسان للشعور بالانتماء وهو ما توفره مواقع التواصل الاجتماعي من خلال مشاركة المحتوى حيث يشعر الفرد بانتمائه.
الشعور بالسعادة التي تمنحها ردود الافعال الايجابية من الاصدقاء على المنشورات التي يشاركها الاشخاص على مواقع التواصل، ويتفق معظمهم أنهم يشعرون بالسعادة عندما يتلقون مئات الاعجابات على منشوراتهم مما يشعرهم بتحقيق شيء ما كما يشعرهم بالتواصل مع من حولهم. ففي دراسة أجرتها جامعة “كوينزلاند” طلب من مجموعة نشطة من مستخدمي “فيسبوك” المشاركة في نشاط عادي عبر الموقع، ولكن ما لم يعرفه المشاركون في الدراسة أنهم لن يتلقوا أي تعليقات أو تفاعل على منشوراتهم. في نهاية الدراسة قال المشاركون أن التجربة كانت لها آثار سلبية على تقديرهم لذواتهم وعلى رفاههم الذاتي.

يمكننا القول ان هذا العالم الافتراضي الذي تعيش فيه البشرية جمعاء أصبح يأخذ دور الآخر في حياة الأفراد إذ يشكل لهم المرآة التي ينظرون من خلالها إلى ذواتهم الحقيقية أو المتخيلة، فيمنحهم مشاعر حقيقية تتأرجح بين الثقة المطلقة بالنفس والتقدير الذاتي المرتفع كلما كان عدد الاعجابات والتعليقات مرتفعًا، وبين التقدير الذاتي المنخفض والتأثر سلبيا بغياب الإعجابات والتعليقات، لدرجة الشعور بالتهميش والرفض مما ينعكس سلبا على رفاههم الذاتي كما بينت الدراسات والابحاث.

زر الذهاب إلى الأعلى