اخبار لبنان - Lebanon News

4 آب وانشطار العاصمة مجدداً

اللحظة القيامية في ظهيرة 4 آب 2020، الفطر العملاق الذي انبثق ككائن شيطاني ناري، والعصف الخارق الذي عبر العاصمة ممزقاً هواءها وزجاجها ومعادنها.. وأجساد سكانها. ثم ذاك الصوت الذي يشبه اجتماع رعود الأرض في ضربة واحدة، العصي على الوصف والنسيان في آن. الرعب المطلق من الارتجاج الزلزالي الذي أماد الأرض وما عليها بعنف خاطف. الهول الساحق الذي استولى على أرواحنا وقطع أنفاسنا.

يوم الدم والحطام والصراخ والذهول والألم. يوم الفظاعة والشر. يوم قبلة الهلاك لبلد بأكمله.

ثلاث سنوات انقضت. وحتى اليوم، المفارقة اللبنانية لا تزال تصفعنا: الحياة عادت لتنتصر، وكذلك المجرمون ما زالوا منتصرين. المهزومون الموتى دفنوا، والجرحى والمعطوبون انزووا في غرف أوجاعهم وعجزهم. المهانة الوطنية تم دسها تحت سجادة سميكة من الصفاقة القضائية والدناءة السياسية. الحقيقة باتت مطلباً عبثياً ومضجراً، وأهل هذا المطلب تحولوا إلى مزعجين، ومعرقلين لرغبة التناسي والنسيان. الكارثة نفسها تم توضيبها بنصب تذكاري تافه.

العاصمة المشوهة تكثر من ماكياجها المبتذل، تخبئ ندوبها بعمليات تجميلية تشبه ما يصيب المهووسات بالبوتوكس والفيلر والسليكون. يحدث ذلك بإرادة سياسية لا تعوزها الحجّة المغرية والمقنعة: إعادة الإعمار واستمرار الحياة.

أما سؤال كيفية الإعمار وماهية الحياة فمتروك لعقيدة: شطب الماضي، حذف الحدث. والابتداء من صفر تاريخي. وأما المراجعة، والتذكر، بل الكشف والمحاسبة، فهذا أشبه بخيانة وانحراف عن الأيديولوجيا الحاكمة.

أسوأ وأخطر ما يقترفه واحدنا هو القول: اللحظة القيامية كانت بفعل فاعل، معروف ومسمى. فالمشتبه به بأدلة دامغة منتصب أمامنا بوضوح ووقاحة وعجرفة. يتحدانا أن نسميه وندل عليه.

فهذا الفاعل، صانع الموت والدمار، يصمم قدرنا ويقودنا ويتولى بنفسه “إعادة الإعمار وديمومة حياتنا”. هو بنفسه يصوغ ذاكرتنا ويكتب سردية ما حدث. هو أيضاً مستقبلنا على ما يبدو.

انفجار مرفأ بيروت، كان محتماً كنتيجة لا مفر منها لهذا المزيج من سلطة المافيا وسطوة السلاح والانحطاط الأخلاقي والاستباحة السياسية. ومن المحتم في أي وقت تكرار ما يشابهه. هو أيضاً وثيق الصلة بانفجار القطاع المصرفي، وانفجار “النظام”، وانفجار المجتمع قبل ذلك في خريف 2019، وانفجارات الحدود والمخيمات، وانفجار عكار الحارق.. وانفجار غضب أي مواطن في كل دقيقة وفي كل شارع وداخل أي منزل.

بهذا المعنى، الشر مستمر ومنتصر، والعجز أيضاً ما زال حقيقتنا المخزية.

التعزية الوحيدة والناقصة تبدو في تلك الإرادة على “النهوض”. ونقول الناقصة، لأن ما حدث بعد الخراب، هو انكشاف العاصمة كجغرافيا معطوبة في انقسامها الفادح. القسم الشرقي الذي أبدى حيوية استثنائية في الترميم وفي استعادة جمالياته العمرانية وفي إعادة البناء، كما أظهر روح تعاون وتضامن وغيرة عامة، مسنوداً بسخاء التبرعات المحلية والمساعدات الدولية، بدأ بعد مرور ثلاث سنوات بالتعافي والانتعاش، مضمداً جروحه الاجتماعية ونسيجه العمراني والمدني، مبتكراً مجدداً نشاطه الاقتصادي والثقافي.

أما وسط العاصمة، فتبين أنه بلا أهل.. بلا مجتمع. مهجور و”يتيم”. لا حاجة به لأحد. أرض بلا هوية ولا وظيفة. هكذا، كضحية مثالية وختامية للجمهورية التي اغتيلت في ربيع 2005. بل هكذا عاد أرض خلاء فاصلة بين بيروت شرقية وأخرى غربية.

الانفجار الذي شطر العاصمة سياسياً ووجدانياً وعمرانياً، يوازي بمفعوله الراهن والمستقبلي كل ما فعلته 15 عاماً من الحروب السابقة. وكلما تناسيناه وطمسنا حقيقته، تماماً مثلما فعلنا بذاكرة الحروب، سيعاودنا لا ككوابيس مؤرقة إنما كوارث جديدة متولدة من خطيئة التناسي وكتم الحقيقة وتجاهل العدالة.

المدن

زر الذهاب إلى الأعلى