في القمة العربية… سلام: لبنان يسعى إلى العودة لموقعه الطبيعي في الحضن العربي

القى رئيس مجلس الوزراء الدكتور نواف سلام كلمة لبنان في القمة العربية بدورتها الرابعة والثلاثين المنعقدة في العاصمة العراقية بغداد قال فيها:
“اسمحوا لنا بداية ان نعرب عن بالغ الشكر والتقدير لأشقائنا في العراق على حسن الاستقبال وكرم الضيافة، الذي يعبر عن أصالة هذا البلد، وعراقة شعبه، مهنئين فخامة الرئيس على ترؤس أعمال هذه القمة، ومتمنين له التوفيق في إدارتها، في ظل ما تشهده منطقتنا من تحديات كبيرة ومصيرية، كما اود باسمي وباسم لبنان أن اشكر العراق ايضا، شعبا وقيادة، على وقوفه الى جانب لبنان في أصعب الظروف، ودعمه المستمر له” .
وشكر “لمملكة البحرين الشقيقة جهودها المقدرّة خلال الدورة المنصرمة، والامتنان موصول للأمانة العامة لجامعة الدول العربية على عملها الدؤوب لعقد وانجاح هذه الاجتماعات”.
وقال: “نجتمع اليوم، وقد افتتح لبنان، صفحة جديدة في تاريخه بانتهاج سياسة واضحة وحازمة تلتزم الاصلاح في مختلف المجالات، وتقوم على فرض سيادة الدولة للبنانية على كامل أراضيها وحصر السلاح بيدها، وتؤكّد أنّها وحدها تمتلك قرار السلم والحرب. وبقدر ما ان ثنائية الإصلاح والسيادة هي مسؤولية لبنانية، أولاً واخيراً، فان مواكبة الاشقاء العرب ودعمهم لنا في هذه المسيرة لهو عامل اساسي في انجاحها، ونقدره اعلى تقدير”.
اضاف: “تعمل الدولة اللبنانية على تنفيذ قرار مجلس الامن الدولي ١٧٠١ تنفيذاً كاملا، انطلاقاً من التزامها بالشرعية الدولية ومن تمسكها باستعادة سيادتها وتعزيز أمنها وحرصها على إعادة الاعمار، كما ان العالم قد شهد على التزام لبنان ببنود وقف الاعمال العدائية الذي دخل حيزّ التنفيذ في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، الا اننا لا نزال نعاني من استمرار الاحتلال الاسرائيلي لمواقع في اراضينا ومن الخروقات الإسرائيلية اليومية لسيادتنا، واعاقة عودة المواطنين الى بلداتهم ورفض إطلاق الأسرى اللبنانيين”.
وتابع: “ومن هنا، ندعوكم، أيها الاشقاء الكرام، الى الضغط على المجتمع الدولي لإلزام إسرائيل وقف اعتداءاتها والانسحاب الفوري والكامل من جميع الأراضي اللبنانية. هذا ويشدد لبنان على اعتماد سياسة خارجية تقوم على عدم التدخل في شؤون الدول الاخرى ومنع أي تدخل خارجي في شؤونه الداخلية، ويهمّه بناء الشراكات الاستراتيجية مع كافة الدول العربية وهو حريص على التصدي لكل ما يهدد امنها وسيادتها واستقرارها، أياً كان مصدرها”.
وشدد على “اننا نقدّر عالياً تضامن كل الأشقاء العرب مع لبنان في هذه الظروف وتقديم المساعدات للتخفيف من وطأة الأزمات المتتالية عليه، بما فيها متطلبات اعادة الإعمار” .
وقال سلام: “رغم حجم التحديات الداخلية، التي تواجهنا، يبقى لبنان، كما كان دوماً، ملتزماً نصرة القضية الفلسطينية. فنحن ندين بشدة السياسة الإسرائيلية القائمة على القتل الممنهج والتدمير الشامل والتجويع المتعمد، لا سيما في قطاع غزة. ولا شك ان ما يشجع المعتدي الاسرائيلي على التمادي هو غياب المحاسبة رغم صدور قرارات تاريخيّة من اعلى المحافل القانونية الدولية لوضع حد للجرائم الاسرائيلية. ونحن نؤكد على دعمنا الثابت للشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه، وبالأخص حقه في تقرير المصير وحق العودة للاجئين الفلسطينيين، التزاماً بقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية التي تبنيناها جميعاً في قمة بيروت عام ٢٠٠٢.
كما نؤكد على رفض أية محاولات لنقل او تهجير الفلسطينيين أو توطينهم في بلد آخر رفضًا قاطعًا. بموازاة ذلك، نشدد على ضرورة الاستمرار في دعم الأونروا كي تتمكن من اداء دورها الإنساني تجاه الأشقاء الفلسطينيين ، وتعزيز الاستقرار في الدول المستضيفة ايضا”.
واكد سلام “استعداد الدولة اللبنانية للتعاون مع الجمهورية العربية السورية لإعادة النازحين السورييّن، الذين استضافهم لبنان منذ عام ٢٠١١، إلى بلداتهم وقراهم التي اصبحت آمنة. وندعو الدول الشقيقة والصديقة للمساعدة على تأمين مقومات الحياة الأساسية لهم في سوريا مما يجعل الظروف أكثر ملاءمة لعودتهم الكريمة. وكذلك، نسعى الى ضبط الحدود، ومنع التهريب بكافة أشكاله لما فيه من مصلحة مشتركة لبلدينا” .
وكرر “ترحيب لبنان بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب برفع العقوبات عن سوريا، وبجهود المملكة العربية السعودية، توصلاً الى ذلك، ونهنئ سوريا دولة وشعباً على هذا القرار الذي يشكل فرصة للنهوض، وسيكون له انعكاسات إيجابية ايضاً على لبنان وعموم المنطقة”.
وختم سلام: “يؤمن لبنان إيماناً راسخاً بأهمية العمل العربي المشترك. فالظروف الإقليمية والدولية معقدة ومقلقة، وتتطلب منا جميعاً أعلى درجات التنسيق والتعاون والتضامن، إنطلاقاً من مسؤوليتنا تجاه شعوبنا، وصونًا للأمن العربي المشترك.
وبعد مرور ثمانين عامًا على تأسيس جامعتنا العربية، يتطلع شبابنا وشاباتنا إلى مستقبل عربي يحفظ كرامة الانسان العربي ويحاكي متطلبات العصر، مستقبل قائم على السلام العادل والشامل كخيار استراتيجي، وعلى التعاون والتكامل والاستفادة من الميزات التفاضلية لكل منّا” .
نص كلمة الرئيس سلام في القمة العربية في بغداد:
أصحاب الدولة والمعالي والسيادة،
معالي الأمين العام لجامعة الدول العربية،
يطيب لنا ان نستهل كلمتنا بتوجيه التهنئة والشكر لفخامة رئيس جمهورية العراق ولدولة رئيس الحكومة والشعب العراقي الشقيق على استضافة وترؤس اعمال الدورة الخامسة للقمة العربية التنموية، الاقتصادية والاجتماعية، ولحرصهم على توفير كل سبل نجاح اعمالها، كما نتوجه بالشكر أيضاً إلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، على الجهود المبذولة لتعزيز مسيرة العمل العربي المشترك.
اخواني الكرام،
تنعقد القمة العربية التنموية في دورتها الخامسة بعد انقضاء ست سنوات على الدورة الأخيرة في بيروت، والتي كان للبنان شرف ترؤسها عام 2019، وهي فترة زمنية حفلت بالتحديات والتغيرات، لكننا حرصنا خلالها على تعزيز أوجه التعاون التنموي بين الدول الأعضاء، ونتابع باهتمام كبير مآلات تنفيذ مقررات تلك القمة.
ويسرّني أن أشير إلى ما تم إحرازه من تقدم ملموس في هذا الإطار، وأبرزه تنفيذ مراحل متقدمة من مشروع الربط الإلكتروني بين الدول العربية لتعزيز التكامل الرقمي والاقتصاد المعرفي، وإطلاق مشروع المنطقة العربية للابتكار لدعم ريادة الأعمال والبحث العلمي، وتفعيل مبادرة المرأة في المجتمعات الهشة والمتأثرة بالنزاعات، واستمرار العمل ضمن المبادرة العربية الإقليمية لصحة المرأة (Pink Tank)، وتطبيق الاستراتيجية العربية للحد من مخاطر الكوارث عبر دعم قدرات الدول في الرصد والاستجابة.
كما أُحرز تقدم لافت في ملفات محورية مثل الأمن الغذائي من خلال مبادرات نوعية كالبرنامج العربي الطارئ، إلى جانب خطوات فنية مهمة نحو تعزيز التكامل الزراعي والتجاري. وعلى صعيد الطاقة، تم اعتماد الاستراتيجية العربية للطاقة المستدامة 2030، واتفاقيتي السوق العربية المشتركة للكهرباء. كذلك، وُضعت أسس واعدة للاتحاد الجمركي العربي، وأُصدر الميثاق الاسترشادي لدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. هذه الجهود، وإن تفاوتت في وتيرة التنفيذ، تعكس التزامًا جماعيًا وإرادة طموحة لصناعة مستقبلٍ أكثر تكاملًا وازدهارًا. وعلينا اليوم أن نواصل البناء على ما تحقق، بروح من الشراكة والواقعية، وبإصرار على تحويل الخطط إلى نتائج يشعر بها المواطن العربي في حياته اليومية.
اخواني الكرام،
مرّ لبنان خلال السنوات الخمسة الماضية بأزمةٍ غير مسبوقة طالت مختلف جوانب الحياة فيه، مع فقدان الليرة اللبنانية أكثر من 98% من قيمتها، وتعثّر القطاع المصرفي، وتضخّم كبير، وانهيار في الخدمات الأساسية، فيما ارتفع الفقر إلى 33%، وانكمش الاقتصاد بنحو 40% مقارنة بعام 2019. وتخللت هذه المرحلة كارثة انفجار مرفأ بيروت عام 2020، الذي بلغ ضحاياه مئات القتلى وآلاف الجرحى كما ألحق دماراً واسعاً بالمرفأ ومحيطه وعطّل حركة التجارة. وقد تسببت الأزمة المتعددة الأبعاد في موجة نزوح للكفاءات وهجرة للطاقات الشابة، ما عمّق خسائر رأس المال البشري وأضعف آفاق التنمية والتعافي. وزاد العدوان الإسرائيلي الأخير من حدة الانهيار، موقعاً أكثر من 4,000 ضحية ودماراً واسعاً في البنية التحتية، مع خسائر تُقدّر بأكثر من 14 مليار دولار.
لقد شكّلت الأزمات المتلاحقة حافزاً لتكثيف جهودنا الإصلاحية، انطلاقاً من قناعة راسخة بأن الإنقاذ لا يتحقّق إلا عبر التغيير الجدي والبنيوي. ومنذ انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة في شباط/فبراير 2025، أطلقنا مساراً إصلاحياً شاملاً يرتكز على ثلاث أولويات مترابطة: الاستقرار الاقتصادي والمالي، الحوكمة وتفعيل المؤسسات، وتنمية رأس المال البشري. وعلى صعيد الإصلاح المالي، تم إقرار قانون رفع السرية المصرفية في مجلسي الوزراء والنواب، وأقرّ مجلس الوزراء مشروع قانون معالجة أوضاع المصارف، وتعمل الحكومة حالياً على إعداد قانون لتوزيع الخسائر المقدّرة بأكثر من 70 مليار دولار. كما أُقرّ قانون استقلالية القضاء، وتم اعتماد آلية جديدة لتعيينات الإدارة العامة تقوم على الجدارة والشفافية، وأُجريت تعيينات في مواقع حيوية. لسنا في مرحلة انتقالية، بل في لحظة تأسيسية نضع فيها أسس دولة القانون، ونستعيد ثقة اللبنانيين والمجتمع الدولي، ونمهّد لتعافٍ اقتصادي واجتماعي مستدام. وقد تعهّدنا بإعادة بناء كل ما تدمّر نتيجة الحرب الأخيرة، ونسعى إلى إطلاق جهود الإعمار ضمن أطر شفافة ومسارات خاضعة للمساءلة. ونحن نتطلع إلى دعم الأشقاء العرب في هذه المسيرة، بما يعزّز من قدرات لبنان على النهوض مجدداً واستعادة دوره في المنطقة.
اخواني الكرام،
في ظل التحديات المتسارعة التي تشهدها منطقتنا العربية ، يقف لبنان اليوم على أتمّ الاستعداد للمساهمة مع اشقائه العرب في مواجهة الأزمات الإقليمية الكبرى التي تهدد مسارات النمو والعدالة الاجتماعية. فمعدلات البطالة المرتفعة في الدول العربية، لا سيما بين الشباب، وتداعيات تغيّر المناخ من تصحّر وندرة مياه وارتفاع درجات الحرارة، وأزمات النزوح واللجوء المتكررة، فضلاً عن التحدي الهائل المتمثل في إعادة الإعمار بعد الحروب، كلها قضايا تفرض نفسها بقوة على الأجندة التنموية للمنطقة. وكلنا ندرك ايضاً أن التنمية لا يمكن أن تتحقّق دون استقرار، لذلك فإن التعاون العربي المشترك لتعزيز الامن والاستقرار وانهاء الحروب لم يعد خيارًا، بل ضرورة ملحّة.
إنّ لبنان يسعى اليوم ليس فقط إلى التعافي، بل إلى العودة إلى موقعه الطبيعي في الحضن العربي، مساهماً فاعلاً في مسارات التنمية البشرية والبيئية والرقمنة والشراكة والتكامل الاقتصادي وتطويرالتعليم والرعاية الصحية وتمكين المرأة والطاقة المستدامة، وغيرها… لقد كان لبنان دائماً من روّاد المنطقة، ورأس ماله البشري المتميّز والمنتشر في كل أرجاء العالم العربي هو على أتمّ الاستعداد للمشاركة في نهضة جماعية عربية عادلة، تُعيد للمنطقة دورها على الساحة الدولية.
ومن خلال هذا المنبر، نعيد تأكيد التزامنا بنهج التضامن، ليس فقط في أوقات الشدّة، بل أيضاً في بناء نماذج اقتصادية واجتماعية أكثر عدالة وإنصاف. نحن نؤمن بأن شبابنا وشاباتنا هم الثروة الحقيقية، وأن الاستثمار في التعليم والمعرفة والتكنولوجيا، وتوسيع فرص المشاركة الاقتصادية والاجتماعية، هما السبيل نحو نهضة عربية شاملة تحفظ الخصوصيات الوطنية ضمن مشروع جماعي طموح. فالمستقبل العربي يبدأ من الإنسان، وتنميته هي الركيزة الأولى لأي استقرار أو ازدهار مستدام.
وفي ختام كلمتنا، باسمي وباسم اللبنانيين، نكرر شكرنا للاخوة العراقيين على وقوفهم الدائم والمستمر الى جانب لبنان في اصعب الازمات وأقسى الظروف، متمنيين لهم كل النجاح والتوفيق في رئاسة الدورة الخامسة لقمتنا التنموية، لما فيه خير لمنطقتنا العربية المتطلعة للتطور والإنماء والحداثة، ومجدّدين التزام لبنان بالعمل المشترك من أجل مستقبل عربي مزدهر.