مرحلةٌ دقيقة… “الحزب” يربط سلاحه بشروط صعبة التحقّق

في تطور لافت يعكس تعقيدات المشهد السياسي والأمني، رفع حزب الله من سقف شروطه المسبقة قبل الانخراط في أي نقاش جدي في ما يُعرف بالاستراتيجية الدفاعية، وهي التسمية الرمزية التي يُقصد بها موقع سلاح الحزب، كما دوره السياسي، في المرحلة المقبلة ضمن بنية الدولة. وحدّد الحزب أربعة شروط رئيسية اعتبرها مدخلًا إلزاميًا لأي حوار مستقبلي: الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي التي لا تزال محتلة منذ تشرين الثاني 2024، تسليم الأسرى، وقف الخروق الإسرائيلية المتكررة لاتفاق وقف إطلاق النار، وبدء عملية إعادة الإعمار في المناطق المتضررة من الحرب.
لم يأتِ هذا التصعيد السياسي من فراغ، بل جاء متزامنًا مع تسارع وتيرة المفاوضات الأميركية – الإيرانية، التي يُتوقَّع أن تُفضي إلى تسويات إقليمية شاملة، من شأنها أن تُعيد رسم موازين القوى وتحسم ملفات عالقة في أكثر من مساحة وخريطة. وفي هذا السياق، يسعى حزب الله إلى تثبيت حضوره في المعادلة، لا فقط كمكوّن لبناني، بل كلاعب إقليمي لا يمكن تجاوزه. فخطابه الأخير حمل رسائل مزدوجة: واحدة إلى جمهوره الداخلي تؤكد أن الحزب لا يزال ممسكًا بزمام المبادرة على الرغم من تداعيات الحرب الأخيرة، وأخرى إلى الخصوم، محليين كانوا أم دوليين، مفادها أن سلاح المقاومة لا يزال حاضرًا، وهو مشروط بمعادلة ميدانية وسياسية لا يمكن تجاوزها.
شكّل الخطاب الذي ألقاه الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم، التعبير الأوضح عن هذه الرؤية. فقد لوّح فيه بإمكان العودة إلى العمل العسكري في حال فشل المسار الدبلوماسي أو تعثّر، معتبرًا أن ما تحقق في المواجهة الأخيرة يجب أن يُستثمر سياسيًا لضمان شروط المقاومة. وفي هذا الإطار، تتوالى تصريحات قياديين بارزين في الحزب، تتعمّد الإيحاء بالثقة والتماسك، بل العودة إلى مرحلة ما 7 تشرين الأول 2023، أي إلى الزمن الذي كان فيه الحزب في موقع الهجوم وليس الدفاع، وهذا يعكس سعيًا حثيثًا إلى إعادة التموضع في الداخل، مع الحفاظ على امتداده الإقليمي ضمن محور المقاومة.
في المقابل، تقف الدولة، وتحديدًا رئاسة الجمهورية، في موقع مغاير من حيث المقاربة. فرئيس الجمهورية العماد جوزاف عون يكرّر باستمرار موقفه الحاسم بشأن ضرورة حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، معتبرًا أن أي نقاش حول الاستراتيجية الدفاعية يجب أن ينطلق من هذا المبدأ الدستوري. ومن أبرز الأفكار التي طرحها في هذا السياق، فكرة دمج حزب الله في الجيش اللبناني ضمن مسار مؤسساتي، شبيه بتجارب سابقة عاشها لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية. غير أن هذه الفكرة المُعتبرة طموحة تصطدم بعوائق كبيرة، أبرزها غياب التوافق الوطني، وتعقيدات لوجستية وعسكرية، فضلاً عن رفض الحزب الضمني لأي طرح قد يُفهم منه المسّ بسلاحه، وهو علّة وجوده وتمدده ونفوذه وتأثيره السياسي.
تُشكّل الاشتراطات التي وضعها حزب الله، في جوهرها، محاولة لإعادة ضبط قواعد النقاش الداخلي، وفرض إيقاع تفاوضي مغاير لما يُطرح في الأوساط السياسية والرسمية. وهي، في العمق، تعبّر عن رؤية الحزب لدوره كجزء من محور إقليمي أوسع، يرى في استمرار المقاومة ضرورة استراتيجية لا يمكن اختزالها في إطار لبناني ضيق. لكنه في المقابل، يصطدم بإرادة لبنانية متنامية، وتصميم خارجي ثابت، ورغبة مشتركة في إرساء منطق الدولة وإعادة هيكلة العلاقة بين مختلف المكونات على أساس مرجعية المؤسسات.
لا تكمن المعضلة فقط في التباين بين وجهتيّ النظر، بل في طبيعة اللحظة الإقليمية التي تمرّ بها المنطقة. لم يعد النقاش في السلاح شأنًا داخليًا فحسب، بل بات جزءًا من طاولة التفاوض الكبرى بين واشنطن وطهران، مما يعني أن مستقبل هذا السلاح سيُحسم على الأرجح في العواصم الكبرى لا في بيروت وحدها.
تأسيساً على هذا الواقع، يبدو لبنان مقبلاً على مرحلة دقيقة، حيث ستتحدد ملامح الاستراتيجية الدفاعية، أو استراتيجية الامن القومي، انطلاقًا من موازين القوى المحلية والإقليمية على حد سواء. وبين من يتمسّك بالسلاح كعنصر قوة وضمانة، ومن يراه عقبة أمام بناء الدولة، تبقى التسوية مؤجلة إلى أن تنضج الظروف، وتُفتح نافذة توافق تسمح بإنتاج حلّ لا يُقصي أحدًا ولا يُكرّس سلاحًا خارج الدولة.
أنطوان الأسمر – اللواء