The News Jadidouna

الفلسطينيون في عين الخطر

كتب طوني عيسى في الجمهورية

فجأة، وفيما الأنظار مسلطة على الاشتباك الساخن بين إسرائيل وإيران، وفيما أهل غزة يقطعون الأنفاس خوفاً من الآتي، برزت فكرة الإعلان عن دولة فلسطينية مكتملة العضوية في مجلس الأمن الدولي. وهذا الأمر أثار استغراب المراقبين وطرح أسئلة عن الجهات التي بادرت إلى تحريك هذا الملف وعن أهدافها؟
تسرَّع الذين توقّعوا رداً إسرائيلياً عاجلاً على الضربة الإيرانية. فصحيح أن الإيرانيين معروفون بالنفَس الطويل في حياكة السجادة، لكن الإسرائيليين لا يقلّون عنهم صبراً ودقة. وهذا التوازن في «المزاج» بين القوتين الإقليميتين، يمكن أن يؤدي إلى إطالة الأزمات الإقليمية شهوراً أو سنوات، وفتح باب المساومات في اتجاهات مختلفة.

مثلاً، يخوض الإيرانيون صراعاً طويل الأمد مع إسرائيل، فيما يساومون لحماية نفوذ الحلفاء في غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن، وللسيطرة على الموارد وخطوط النقل الإقليمية. وطبعاً، وسط كل ذلك، يطمحون إلى استكمال بناء قدراتهم النووية.

أما الإسرائيليون، ففي غمرة الصراع مع إيران، هاجسهم الأساسي يبقى الملف الفلسطيني. فالمواجة الجارية اليوم بينهم وبين إيران لم تكن لتقع لو لم تكن طهران منغمسة في حرب غزة.

في شأن الرد على إيران، يتّصِف سلوك إسرائيل بالدهاء. فهي ستوحي للأميركيين بأنها ستستجيب لدعواتهم إلى التهدئة، لكن ما تريده في الواقع هو أن تتقاضى ثمن «ضبط الأعصاب» من الولايات المتحدة والعرب. وهذا الثمن تريده في الملف الأكثر أهمية، أي الملف الفلسطيني.

يعرف بنيامين نتنياهو أنه لا يستطيع اقتحام رفح عسكرياً، ما لم يتمكن من تهجير أهلها أولاً. وهذا التهجير يستلزم شهوراً بل سنوات من حروب الاستنزاف والتجويع. ولذلك، لا بأس من استثمار الوقت لبناء تحالف إقليمي – دولي يوفّر التغطية العسكرية والسياسية لإسرائيل. ويتحقق ذلك باستقطاب المزيد من العرب إلى خيارات التطبيع، خصوصاً إذا فاز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية المقبلة.

المناورة التي يخبئها نتنياهو في الوقت الحاضر هي الآتية: إيهام القوى الدولية والعرب بأنّ إسرائيل موافقة على فكرة الدولة الفلسطينية. ومقابل هذه «الإيجابية»، يطالب نتنياهو بعودة العرب إلى مسار التطبيع الذي توقّف بسبب اندلاع الحرب في غزة، بعدما قطع أشواطاً بعيدة.

قُبَيل الحرب، أعلن السعوديون استعدادهم للسير في خيار التطبيع إذا وافقت إسرائيل على مبادرة بيروت العربية للسلام 2002، القائمة على معادلة الأرض مقابل السلام. وانكَبّت الجامعة العربية على ورشة للبحث في سبل تعويم هذه المبادرة. حتى إن بعض المحللين يعتقد أن لجوء «حماس» إلى عملية «طوفان الأقصى» في هذا التوقيت كان يهدف إلى إفشال مسار التطبيع. وأيّاً يكن مدى دقة هذا التحليل، فإنّ حرب غزة أوقفت التطبيع فعلاً.

ولذلك، يقوم الإسرائيليون اليوم بمناورة تقضي باعتماد قرار دولي يتحدث عن «دولة فلسطينية»، ولا تمارس واشنطن حق النقض لإسقاطه. وبعد ذلك، يصبح الأميركيون قادرين على إقناع العرب باستكمال مسار التطبيع.

قد يعتقد البعض أن اعتماد تسمية «الدولة» في قرار صادر عن مجلس الأمن سيكون انتصاراً فلسطينياً، إذ سيعني تلقائياً أن الأرض الفلسطينية محتلة حالياً، وبالمعنى القانوني، يجب تحريرها ذات يوم. لكن هذا التفسير صحيح على الورق فقط، ولا سبيل واقعياً إلى تطبيقه.

ففي أرشيف الأمم المتحدة، نص القرار الدولي 181، الصادر في العام 1947، وهو قضي بقيام دولتين في فلسطين التاريخية: فلسطينية (42.3%) ويهودية (57.7%). ويومذاك، العرب رفضوا القرار، لكنهم استمروا طوال عقود، بعد ذلك، يطمحون إلى ما هو أدنى بكثير، حتى إنهم اكتفوا في أوسلو بـ»سلطة فلسطينية» أشبَه بإدارة ذاتية، على بعض من الضفة الغربية وغزة.

إذاً، في أرشيف قرارات مجلس الأمن، «الدولة» الفلسطينية موجودة. وإذا كانت هناك رغبة فعلاً في منح الفلسطينيين «دولة» مكتملة المواصفات، فمن السهل «انتشال» هذه الدولة من الأرشيف وإعطاؤها حيّزاً حقيقياً تقام فيه على أرض الواقع، لا على الورق.

نتنياهو لا يريد تحديد حيّز لدولة فلسطينية على الأرض، بل يريد استخدام المصطلح ليمنح العرب تبريراً كي ينضموا إلى التحالف السياسي والدفاعي الإقليمي ضد إيران ويستأنفوا مسار التطبيع.

وبعد ذلك، يستفيد من هذه التغطية لاستكمال مخطط التهجير والاقتحام في غزة. فهناك تركيزه الأساسي.

ويخشى العديد من المحللين أن يستتبع نتنياهو مشروع غزة بسيناريو مماثل في الضفة الغربية، فيقضي تماماً على أي أفق لنشوء دولة فلسطينية، حتى إشعار آخر. ولذلك، يمكن القول إن الفلسطينيين هم اليوم في عين الخطر الحقيقي، أكثر من أي يوم مضى من تاريخهم، على رغم الشعارات والمصطلحات «البرّاقة» التي يجري إعدادها.

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

Privacy & Cookies Policy