The News Jadidouna

من الرئاسة السعودية للقمة العربية في جدّة الى قادة الدول الصناعية في “هيروشيما”: نحن هنا

كتبت راغدة درغام في “النهار العربي”:

الرئاسة السعودية للقمة العربية ستدوم لسنة وستكون ذات جاذبية مغناطيسية قياديّة لكامل المنطقة العربية، وهي تعبر من لغة الايديولوجيات والتصلّب والتزمّت الى زمن الانفتاح والاعتدال والالتحاق بالمستقبل نهضوياً ورؤيوياً وعلميّاً ببراغماتية. المحور الإقليمي في الحسابات السعودية تتصدّره إيران التي ستكون للسنة المقبلة شريكاً في النقلة النوعية من خانة العدو والمخرّب والمعتدي، كما صنفتها القمم السابقة، الى الجار المتعاون في إيجاد الحلول ولجم التطاول على سيادة الدول العربية- وهذا ما تراهن عليه القيادة السعودية.

المحور الدولي في أولويات الرئاسة السعودية للسنة المقبلة يرتكز على تحقيق المصالح العربية بعيداً من الاستقطابات التقليدية للدول الكبرى بحيث يبرز التوازن ترافقه الثقة إنما بحلّة جديدة في العلاقات مع الولايات المتحدة والصين. فلدى السعودية اليوم مكانة مؤثرة عربياً وإقليمياً ودولياً، وهي تنوي استثمارها على أساس خريطة طريق وأولويات أطلقتها الأسبوع الماضي من قمة جدّة المميّزة في مسيرة القمم العربية.

قمة هيروشيما التي عُقِدت يوم الجمعة الماضي في الموعد نفسه لانعقاد قمة جدّة أطلقت دفعة من العلاقات الحذرة مع الصين والمتوتّرة مع روسيا حيث أوضح قادة الدول الصناعية السبع الكبرى أن الثقة بالصين ضعيفة وأن لا ثقة أبداً بروسيا. روسيا التي كانت يوماً الدولة الثامنة في مجموعة السبع G7 باتت اليوم عدوّاً مُستهدفاً لا عودة عن القرار بنبذه بسبب حربها على أوكرانيا. قمة هيروشيما تحولت الى قمة أوكرانيا حيث أجمع قادة كل من الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وايطاليا وكندا على توطيد الدعم الكامل للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، عسكرياً واقتصادياً، والى حين إلحاق الهزيمة بروسيا.

أبرز قرارات قمة هيروشيما شمل تضييق الخناق على روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين عبر توسيع العقوبات ذات العواقب البعيدة المدى على روسيا، بما فيها العقوبات الثانوية على الشركات الآسيوية أو الشرق أوسطية التي تتعامل مع روسيا. الصين بالذات في أعلى مراتب الدول المرشحة للعقوبات لأن دول مجموعة السبع قررت أنها لا تريد للصين أن تلعب أدوارها ما بين روسيا وأوكرانيا بما يخدم الأجندة الصينية.

لذلك، كان واضحاً عزم الدول السبع على منع الصين من تطوير سعيها بأن تكون راعي الحلول للحرب الأوكرانية. لذلك أتى التأكيد أن الأساس الوحيد لمحادثات سلمية هو خطة زيلينسكي، من دون غيرها. فالدول الغربية زائد اليابان قررت لجم الطموحات الصينية التي ترغب بها بكين عبر البوابة الأوكرانية. وهناك رأي يعبّر عنه بعض الخبراء اليوم في أن لا مجال لحلول للحرب الروسية – الأوكرانية وإنما هذا النزاع سيصبح مشابهاً للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني ليدوم سنوات وسنوات بلا حلول. هذا بالطبع، ما لم تتطور الحرب ميدانياً الى مواجهة أوسع وأعمق وأخطر لا سيما إذا صعّدت أوكرانيا عسكرياً داخل الأراضي الروسية. عندئذ، كل الاحتمالات ما زالت مفتوحة، بما فيها الخيارات النووية.

العلاقة بين قمة هيروشيما وقمة جدّة ليست مباشرة، لكن محطة العلاقات الغربية مع الصين، بالذات الأميركية – الصينية، ستنعكس على تموضع الرئاسة السعودية للقمة العربية خلال السنة المقبلة. كل من الدبلوماسية الأميركية والدبلوماسية الصينية تدرك تماماً أهمية حيويّة القيادة السعودية للمنطقة العربية في هذا المنعطف الفائق الأهمية لكل الأطراف. وهذا جديد نوعياً.

لم تعتد الدول الكبرى أن تتأقلم مع خيارات وتوجهات الدول الأصغر حتى ولو كانت دول كبرى اقليمياً. في الماضي، صُنِعَت السياسات على أساس “من أعلى الى أسفل” نظراً لأدوار الدول الكبرى في زمن الاستقطاب بالذات أثناء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

اليوم، هناك إدراك على مستوى القيادات الأميركية والصينية والروسية والأوروبية أن الدول الخليجية اليوم ليست دول الخليج كما كانت في الماضي. قيادات هذه الدول شابة ورؤيوية وإقدامية وواعية وجريئة وليست متهورة. هذه قيادات تقرأ ملامح المستقبل بلغة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والمدن الجديدة والتطور التنموي والنهضوي وهي تحسّن حديث الاعتدال والإقناع. هذه قيادات تدرك قيمة إرثها والقيمة المستقبلية لنهجها وخططها، ولذلك تتحدث مع القيادات الأميركية والصينية والأوروبية والروسية والآسيوية بلغة الاحترام المتبادل للمصالح وللطموحات وللقرارات السيادية التي تحرص على ألا تكون استفزازية أو قصيرة النظر.

هذه اللغة الخليجية الجديدة، بالذات السعودية، تبنتها الدول العربية- أقلّه كما بدا في قمة جدّة حيث كان واضحاً أن هناك تفاعلاً مع المكانة المؤثِّرة للسعودية التي تتعدّى أهداف “تصفير” المشاكل والنزاعات وتصبّ في خانة تحوّل جذري في المنطقة العربية ومرتبتها العالمية. كل هذا هو جزء من رؤية 2030 لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي أزال التطرف الديني واعتمد التنموية والاعتدال كحاجة وطنية وأحاط نفسه بوزراء مثقفين ومؤسسات دولة واثقة. فهو تعهّد أن تكون الدول الخليجية والعربية “أوروبا الجديدة”، وها هو قد وضع وعده قيد التنفيذ انطلاقاً من مبدأ الاعتدال والمرونة والواقعية السياسية بمفهومها الجديد.

بالأمس كان الخطاب السياسي في القمم العربية خطاب مزايدات ايديولوجية ووعود عن الوحدة العربية الزائفة. اليوم، إن الخطاب السياسي الذي أطلقته الرئاسة السعودية للقمة العربية في جدّة، مبني على تأكيد الشرعية والسيادة الوطنية في كل وطن ما يشدّد على مركزية شرعية الدولة العربية الوطنية. فإذا كانت هناك رغبة بالاندماج، فإنه اندماج على المستوى الراقي وفي اطار مشروع حداثة متطور يعتمد تكنولوجيا المستقبل وليس أيديولوجيا الأمس.

لعل قمة جدّة تستحق أن يُطلَق عليها عنوان قمة تشييد النظام العربي الجديد. القيادة السعودية من أوائل الذين أدركوا مركزية تموضع الدول الخليجية والعربية لتكون ذات مكانة في اطار النظام العالمي الآتي الذي تفرزه التطورات بين الدول الكبرى وداخلها، اقتصادياً وسياسياً.
انها رئاسة التفاعل والتفاؤل بصفحة عربية جديدة بقيادة سعودية تؤمن بالعلاج العربي للمشاكل العربية المستعصية بعيداً من العاطفية الفارغة وبخطى مدروسة لا تتجاوز القرارات الدولية ولا العقوبات. انه أسلوب الإقناع والترغيب وإعطاء الفرص على أساس التدريجية والتأكد من الوفاء بالالتزامات. من أولوية اليمن، الى الحاجة الطارئة لاحتواء التدهور في السودان، الى اختبار القيادة السورية، الى فلسطين ولبنان والعراق ودول عربية أخرى، أطلقت قمة جدّة ماكينة عربية فاعلة ذات تأثير.

رئاسة القمة ستكون محطة فاصلة لأن أجواء اليوم تفيد بثقة العرب بالسعودية وثقة العرب بأنفسهم. تفيد بأن هناك ما بعد قمة جدّة شعور بصفوة وصفاء عربي نادر سيكون مردوده مهم اقليمياً وعربياً.

إقليمياً، ستعطي الرئاسة السعودية الأولوية لإيران للسنة المقبلة بامتداد للموقف العربي الذي صدر عن قمة جدّة في بيانها الختامي. فالبيان رحّب بالاتفاق الذي تم التوصل اليه بين السعودية وإيران في بكين الذي يضمن استئناف العلاقات الدبلوماسية وإعادة فتح بعثاتهما، وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني والاقتصادي بين البلدين.

الأهم انه للمرة الأولى يصدر بيان عن قمم خليجية وعربية لا يندّد بالسلوك الإيراني، ولا يطالب بالكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، ولا يشير الى الجزر التي أشار اليها دائماً أنها جزر إماراتية تحتلها إيران.

إيران ما زالت في كل مكان في البقعة العربية من الخليج الى اليمن الى العراق الى سوريا فلبنان، وما زال قرارها الاستراتيجي غامضاً. من جهة الأداء، تعتمد طهران اليوم أسلوب الدبلوماسية الناعمة بعيداً من التهديد والوعيد المعهود وكأنها تقدم أوراق اعتماد اعتدال الى السعودية والصين. أما من جهة ايديولوجية النظام في طهران، فليس هناك أي مؤشر على تعديل جذري reform فيه، ولا هناك أي دليل على فك الارتباط بين طهران و”الحرس الثوري” بالذات وبين الأذرع الإقليمية له من الحوثيين في اليمن الى “الحشد الشعبي” في العراق الى “حزب الله” في لبنان.

بالرغم من ذلك، يبدو أن الرياض عازمة على استخدام رئاسة القمة العربية للسنة المقبلة لإعطاء إيران فرصة اختبار فوائد الصلح والحوار ووقف التدخل في الدول العربية وانتهاك سيادتها. هذه الفوائد لا تقتصر على البعد الاقتصادي وإنما ستكون مصيرية للجمهورية الإسلامية الإيرانية إذا ما اختارت حقّاً مسار تعديل منطق النظام وتطوير الدولة الإيرانية لتلتحق بالمسيرة الإقليمية نحو المستقبل.

في الأمر رهان ومغامرة، لكن الدبلوماسية السعودية ترى أن إقناع القيادة الإيرانية ليس مستحيلاً، وأن التحوّل المرجو منها سيمكّن الرئاسة السعودية من لعب دور محوري مع الولايات المتحدة من أجل استئناف المفاوضات النووية ورفع العقوبات عن إيران. بكلام آخر، إن الدبلوماسية السعودية ستضع يدها مع الدبلوماسية الصينية في ملف المفاوضات النووية، إذا ما صدقت إيران بوعودها وبسلوكها، وعندئذ يكون رفع العقوبات عن إيران بمعونة سعودية. ولكل شيء ثمن.

البعض يتحدّث عن صفقات غض نظر عن سلوك إيران في دولٍ عربية معينة الأمر الذي يسمح مثلاً لـ”حزب الله” توطيد نفوذه وبسط سلطته داخل لبنان، مقابل عدم الامتداد إقليمياً. هذه نظريات. بل إن مثل هذا السيناريو يفتقد المنطق لأن تسليم لبنان الى “حزب الله” يعني عملياً تسليفه دفعات مسبقة ليعيد ترتيب أوراقه ليكون جاهزاً في أي وقت كان لاستئناف عملياته الإقليمية التخريبية. لذلك، منطقياً، من المستبعد أن تكون الرئاسة السعودية حقاً تنوي الاستثمار في “الحرس الثوري” الإيراني وتسليفه وحليفه في لبنان الأوراق الحاسمة. ففي هذا انتحار.

أخيراً، وعلى الصعيد الدولي، ما تنوي الرئاسة السعودية الحفاظ عليه، الى جانب التوازن في العلاقات مع الولايات المتحدة والصين، هو إبراز قدرتها وقدرة دولٍ خليجية وعربية أخرى على لعب دور الوسيط أو الموفِّق بين القادة الذين هم على خلاف.

مشاركة فولوديمير زيلينسكي في قمة جدّة وسط توقعات أنه كان ذاهباً الى قمة هيروشيما أولاً، إنما تعني أن الرئاسة السعودية للقمة العربية أرادت بعث رسالة مهمة جداً الى قادة الدول السبع في هيروشيما مفادها الآتي: أولاً، أنه رغم خصوصية العلاقة مع الصين والعلاقة التهادنية مع روسيا، فإن الدول العربية على صفحة واحدة مع الدول الغربية، وأوكرانيا مثال. ثانياً، إثبات جاهزية لعب دورٍ مميّز في الأزمة الأوكرانية، كما في غيرها إذا برزت الحاجة. وثالثاً، بعث رسالة واضحة جداً للقادة في هيروشيما من القادة في قمة جدّة وعنوانها: نحن هنا.

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

Privacy & Cookies Policy