مناطق وبلديات

مهرجان جبيل للتانغو: الرقص الحارّ للأجساد الحرّة

الجَلسة الصباحيّة “تتكلّل” بالخبريّات الجميلة والمُشوّقة و”يُغلّفها” هذا الشَغف “الشاهِق” الذي سُرعان ما يكسو جُدران الحياة الافتراضيّة بأضواء النيون المجنونة التي تتغلّب على الفواتير المُتراكمة والمسؤوليات المُضنية والمَلل القاتِل، بحركة صغيرة – لكن لامُبالية – من الكَتف.

ويتحوّل المقهى الحميم بستائره الخارجيّة الحمراء مسرحاً جوّالاً لرقصة التانغو التي تتطلّب كياسة بالغة وأناقة باتت نادرة في أيامنا الحاليّة السريعة الإيقاع.

الستائر الخارجيّة في هذا المقهى القائم في شارع بدارو الـTrendy (عصريّ) والـ IN “تطغى” على شمس أيلول وتُظلّل المكان الذي يزوره كل من يبحث عن القليل من السكينة وسط الضوضاء المُرهقة التي نعيش سجنها “الساحِق” واقعاً لا مفرّ منه.

مازن كيوان قصّ شعره الطويل الذي اعتدناه في البرنامج التلفزيوني الشعبيّ “Dancing With The Stars” في نُسخته العربيّة (حيث هو عضو في لجنة التحكيم). يبدو أصغر سناً وأكثر استرخاءً…وأكثر تعبيراً عن شغفه المُتزايد لرقصة التانغو الحارّة والحُرّة، بقدرتها على “تشذيب” الهويّة الذاتيّة، وتهذيب النفس، ومُساعدة الجَسد على الشفاء من الأمراض المُستعصية، والتغلّب على التشتّت الفكري…وأيضاً قدرتها على وضع كل شخص في مكانه الصحيح: فبفضل رقصة التانغو، يُصبح الرجل رجلاً والمرأة إمرأة، “ما في مجال للغلط هون”!

نحتسي القهوة ببطء، “ما في داعي للاستعجال”. وفي حين كان من المُقرّر أن يتمحور الحديث حول “مهرجان جبيل للتانغو” الذي يُقدّمه كيوان في نسخته الخامسة في ساحة الأونيسكو في المدينة الأثريّة في 28، 29 و30 من الجاري، تأخذنا الدردشة الصباحيّة إلى أكثر من رواق في عالم التانغو:

الأكاديميّة التي أنشأها لتستقبل عُشّاق الرقص من كل الأعمار، تعامله مع التانغو كعلاج شاف لمرضى الباركينسون والذين يتعافون من الجلطات، أناقة هذه الرقصة وطقوسها الراقية والرفيعة الثقافة، قوانينها وأصولها، الأحاسيس التي تنبثق من الروح لتتحوّل حركات مُخمليّة نتحكّم من خلالها بالجسد وبعده بالحياة، أبناء “الطعشات” (Teens) الذين يرقصون جنباً إلى جنب مع “ولاد السبعين”، الأثرياء الذين يترنحون جنباً إلى جنب مع الذين “يوفّرون الليرة” ليُشاركوا في الصفوف التي تصلنا بالآخرين من خلال الحيويّة، فإذ نعوم فوق “ثقل الأيام”.

إيقاع الحديث يُجسّد بحد ذاته رقصة هادئة ومُتقنة. وبكل تأكيد هي رقصة يقودها مازن كيوان، وأكتفي بالاستمتاع بنوادره وبتسجيلها بدقّة لأستمتع بها مرة ثانية عندما يحين الوقت لأكتب المقالة الصغيرة.

المهرجان – الحدث له طابعه الثقافي بكل تأكيد ولكن له أيضاً طابع سياحي لا يُستهان به، إذ إن الهواة الذين “يُطاردون” المهرجانات التي تُعنى بالتانغو غالباً ما يجوبون العالم بحثاً عن كل ما يُجسّده عالم التانغو من تحرّر وإتقان، “ولهذا السبب اخترت جبيل المدينة التي تضم كل ما يُمكن أن نحلم به في مكان واحد، من دون أن ننسى سحرها الطاغي والمتجلّي بتفاصيل صغيرة”.

3 أيام من “الصخب المُخمليّ” يتخلّله الرقص والمحترفات ولقاءات مع راقصين و”دي جاي” مُتخصّصين بموسيقى التانغو في انتظارنا في هذا المهرجان الذي سيكون لنا معه أكثر من لقاء في الأيام المقبلة. وبما أنها “سيرة وانفتحت”، الموسيقى هي العنصر الذي جذب مازن كيوان بدايةً إلى عالم التانغو بعد سنوات أمضاها في الرقص مع فرقة “كركلا” العالميّة والتمايل أيضاً على أنغام “الموديرن جاز”. كانت رقصة التانغو هواية لكيوان، لكن “العفريتة” عرفت أن تجذبه وتغويه إلى عالمها، وها هو اليوم قد قطع مراحل لا تُعد ولا تُحصى في فصول كتابها الضخم.

شيء ما في حواراتها الصامتة أسره إلى الأبد، “أسلوب الدعوة إلى الرقص، الكياسة البالغة في التودّد إلى الراقصات، الحديث بواسطة العيون، التواضع الذي يولد مع الوقت، التانغو أضاف الكثير من العمق إلى شخصيتي. ومن خلال هذه الرقصة يُمكن ان نصل إلى مرحلة نتحرّك فيها من دون أن نطلب الأذن المُسبق من العقل”!

AHA! ها قد وجدنا طريقة “مُخمليّة” لإسكات العقل ولعيش اللحظة!

يُمكن أن نتابع آخر التطوّرات في المهرجان – الحدث في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي التي تزدهر هذا العام بفضل خطيبة مازن، كارين نصرالله التي تديرها بإتقان وتُطلق من خلالها العديد من الـTrends الرائعة التي تنتشر في العالم!

كلمة أخيرة يا مازن، قبل أن نُغادر المقهى الذي استقبل شغفك وفضولي بسكينة “مُهدهدة” ونعود إلى جنون الواقع؟

“في التانغو نجد كل ما نحتاج إليه من عناصر للتعبير عن الذات. نعيش بفضل هذه الرقصة حياة أجمل. نرقص ونحتضن الآخر ومن هنا القدرة العلاجية للتانغو”.

في هذه الرقصة يجتمع التاريخ والموسيقى والسياسة والإنقلابات والثورات…و”فوق هيدا وكلّلو” يهدأ العقل ونعيش تالياً اللحظة بكل إنفعالاتها…فهيا بنا إذاً نُسكت العقل ونُلبّي نداء الروح بنسيجها الحريري.

أعانق مازن بلحظة عفويّة في نهاية الحديث، فإذا به يقول لي بفرح، “في التانغو نحن في الواقع نرقص بطريقة تُجسّد كلياً ما نحن عليه في الواقع”!

هنادي الديري – النهار

زر الذهاب إلى الأعلى