
كتب اسعد الخوري في الجمهورية
إنعقد في جامعة الروح القدس – الكسليك قبل أيام المؤتمر الاقتصادي الاغترابي الأول برئاسة نبيه الشرتوني، وتمّ الإعلان عن قرار بإنشاء صندوق لمؤازرة صغار المنتجين والشركات، بموازنة تقدّر بمئات الآلاف من الدولارات. لكن المؤتمر لم يُشر في مقرراته إلى توقيت واضح لتنفيذ هذا الوعد المالي العام لدعم شريحة واسعة من اللبنانيين. فهل هي وعود جديدة بدعم لبنان أو مجرّد كلام «لا يسمن ولا يغني؟!».
الواقع، إنّ الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم التي عُرفت تاريخيًا بدورها الرائد في دول العالم، حيث يوجد مغتربون لبنانيون، قد انكفأت تمامًا بعد الحرب اللبنانية وخلالها عن القيام بأعمال قيّمة ترفع اسم لبنان وإرادة ملايين المنتشرين اللبنانيين في العالم. لقد تحوّلت «الجامعة» إلى إسم بلا مسمّى، إذ نخرتها الخلافات والنزاعات. كان مطلب المنتشرين اللبنانيين هو قيام وزارة خاصة بالمغتربين، وقد تمّ ذلك بعد سنوات الحرب الطويلة، وكان أول وزير للمغتربين هو الدكتور رضا وحيد عام 1992، وهو أحد أبرز الوجوه في العهود الشهابية، وقد وضع أسس وزارة المغتربين التي أُلغيت لاحقًا. لقد أرادها تجربة مميزة تصل بين جناحي لبنان المقيم والمنتشر. لكن سيطرة جناح من الاغتراب على «الجامعة» منذ ذلك التاريخ قسّم الجامعة إلى جامعات عدة وحوّلها إلى «بيوت عدة»، وأجهض دورها، فصارت اسمًا بلا معنى ولا دور ولا انتاج. وبالتالي لم تَعدْ تمثّل فعلاً حقيقة الدور الاغترابي ومهمته الرفيعة في العالم.
وإذا كان «الانتشار هو نفط لبنان» كما يقول الطبيب المعروف فيليب سالم، أحد أبرز القيادات الاغترابية في العالم، فإنّ هذا «الانتشار» فقد دوره وفعاليته مع انقسام «الجامعة» وتقلّص دورها وابتعاد المغتربين الكبار عنها. وقد دعا فيليب سالم في كلمة له في حفلة افتتاح مؤتمر الطاقة الاغترابية عام 2015 لـ»وضع استراتيجية كاملة لتوحيد الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم».
لقد تحوّل المغتربون «أرقاما» لا حول لها ولا قوة، ولم يعد الانتشار اللبناني يشكّل «الهالة» التي تحرص وتدعم «وطن الأرز» الذي أنهكته الخلافات والانقسامات بين المنتشرين، تمامًا كما هي حال الداخل اللبناني المشرذم والمتهالك.
وفي مواجهة «الجامعة» التي يرأسها نبيه الشرتوني، فإنّ عبّاس فوّاز يرأس «جامعة» ثقافية أخرى، تتخذ من وزارة الخارجية والمغتربين في بيروت مركزًا رسميًا لها، وتُصدر مجلة الكترونية تنطق باسمها. وقد استفاد هذا «الجناح» من دعم مدير عام المغتربين السابق هيثم جمعة، للاستمرار في دورها الاغترابي، وليكون من ضمن أبرز أعضائها وقيادييها مجموعات من المغتربين المنتشرين في إفريقيا بنحو أساسي، فيما «جامعة الشرتوني» تضمّ حاليًا فاعليات من المنتشرين اللبنانيين في أميركا الشمالية والجنوبية وأستراليا وأوروبا. صحيح أنّ الانتخابات على صعيد الجامعتين تجري بشكل «شرعي» كما تقول قيادات الجامعتين، إلاّ أن المتابعين لدور الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم يفتقدون في «جناحي» أو «أجنحة» هذه الجامعة الأسماء الكبيرة الفاعلة التي حملت اسم لبنان ورفعت أرزه وقضاياه فوق قمم العالم بأسره.
انّ لبنان الوطن المدمّر والذي يعاني من انقسامات حزبية وطائفية وكيانية، من الطبيعي أن يفرز «جامعات» ثقافية لبنانية متنازعة ومتضاربة الصلاحيات ومحدودة الفعالية. إنّ توحيد القرار في لبنان من شأنه أن ينعكس على القرار داخل الجاليات اللبنانية في العالم بأسره، ويعيد للانتشار اللبناني رونقه ودوره وفعاليته، بدل الانهيار الذي يشهده، تمامًا كما هو الداخل اللبناني. فالانتشار اللبناني في الخارج ليس إلاّ صورة مصغّرة للواقع اللبناني المأزوم.
لا أحد يمكنه إلاّ الثناء الكبير على دور المنتشرين اللبنانيين الذين يدعمون أهلهم وأقاربهم وذويهم في كافة مناطق وقرى لبنان، منذ عشرات السنين وحتى اليوم ودون انقطاع، والذين لولاهم لكان لبنان واللبنانيون على حد سواء قد عانوا الأمرّين، وأكثر مما يعانون اليوم. لا ينكرُ أحد أنّ المنتشرين اللبنانيين في العالم شكّلوا «مظلّة واقية» لمنع لبنان وأهله من الانهيار الشامل والكامل. وها هو لبنان يتطلع دومًا إلى المغتربين اللبنانيين، خصوصًا خلال فصل الصيف، للمجيء إلى قراهم في لبنان، ليشكّلوا قوة مالية تمنع سقوط لبنان وانهياره.
عندما يخرج لبنان من واقعه المأسوي الذي يتخبّط فيه منذ العام 1975 (تاريخ بدء المأساة اللبنانية)، فإنّ الإنتشار اللبناني سيخرج كذلك من انقساماته، ليعود فخرًا وعزّة للبنان في الكواليس الدولية وفي عواصم العالم، كما كانت عليه الأمور في ذلك «الزمن الجميل»!