السلة الغذائية فشلت … ولبنان على خطى سوريا

الدكتور فادي علي قانصو – صوت كل لبنان
على وقع الجشع المُستفحل في نفوس بعض تجّار المواد الغذائية، وفي ظلّ الغياب الفاضح للسلطات الرقابية في عملية ضبط التفلّت الجنوني لأسعار السلع في السوق اللبنانية بشكل عام، فإن وزير الاقتصاد والتجارة راوول نعمة قد “بقّ البحصة” أخيراً، مُعلناً فشل خطة دعم السلّة الغذائية في قدرتها على خفض أسعار السلع المدعومة، لا بل على العكس، نجحت نجاحاً باهراً في رفع أسعار السلع الغذائية المدعومة بشكل تصاعدي وعشوائي من دون أي مبرّر أو منطق. في الواقع، إن هذا الاعتراف الرسمي لوزير الاقتصاد ليس إلا إعلاناً مبطّناً عن أنّ مسار ترشيد الدعم للمواد الأساسية من المحروقات والأدوية والقمح من قِبل مصرف لبنان قد انطلق فعلياً، في ظلّ إشارات إلى تدرّج مرتقب في عملية رفع الدعم الجزئي في المرحلة الأولى وصولاً إلى رفع كلّي في مراحل لاحقة، خصوصاً إذا ما بقي الوضع الراهن على ما هو في الأشهر القليلة المقبلة، أيّ لا إصلاحات هيكلية ولا اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وتالياً لا مساعدات مالية من الخارج.
والجدير بالذكر أنه قبيل إقرار وزير الاقتصاد بفشل عملية دعم السلّة الغذائية، دقّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ناقوس الخطر مُعلناً أن الاحتياطات الأجنبية السائلة لدى المصرف المركزي لا تتعدّى 19.5 مليار دولار، وأن ما تبقّى من قدرة على المناورة والتمويل لا تتجاوز ملياري دولار قبل الوصول إلى عتبة الاحتياط الالزامي العصيّ على المسّ والبالغ 17.5 مليار دولار، وهو ما تبقّى فعلياً من أموال موظّفة لدى مصرف لبنان. وعليه، فإن مبلغ الملياري دولار يكفي لتمويل حاجات لبنان من المواد الأساسية لفترة لا تتعدّى الثلاثة أشهر، على اعتبار أن هذه الحاجات التمويلية تُقدّر بنحو 650 مليون دولار شهرياً. من هنا، فإن إبقاء الدعم وسط هذه الظروف الشائكة، لا سيّما في ظلّ الغياب المُستهجَن لرقابة الدولة والتهريب المستمرّ عبر المعابر غير الشرعية، ستكون له تداعيات استنزافية خطيرة على ما تبقّى من عملات صعبة في جعبة المصرف المركزي. ولكن في المقابل، إن رفع الدعم الكلّي عن المواد الأساسية ستكون له انعكاسات ملحوظة على معدّلات تضخّم الأسعار، خصوصاً أسعار السلع المدعومة من محروقات وأدوية وقمح، والتي من المتوقع أن تشهد تضخّماً في أسعارها بنسب قد تراوح ما بين 200% و400% إذا ما أُلحقت بالسوق السوداء والمبنيّة على أساس سعر الصرف السائد حالياً أي 7,500 ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد. ولكن ما هو مصير سعر الصرف في السوق الموازية في حال رُفع الدعم كلّياً أو جزئياً عن المواد الأساسية؟
في الحقيقة، إن سعر الصرف في السوق السوداء لن يبقى بحدود الـ7,500 ليرة للدولار إذا تمّ رفع الدعم، نظراً إلى أن الجهات المستورِدة للمحروقات والأدوية والقمح، سوف تتجّه حُكماً بكتلة قد تصل كحدّ أقصى إلى 8 مليارات دولار سنوياً إلى السوق السوداء لشراء العملة الخضراء، ما يعني طلباً شهرياً مضاعفاً على الدولار وتاليا تدهوراً إضافياً في سعر الصرف إلى مستويات جنونية قد تكون عصيّة على أكبر المحلّلين والمنجّمين حول العالم. وعليه، فإن كل ما يُحكى عن أن سعر ربطة الخبز قد يصل إلى حوالى 10,000 ليرة في حال رُفع الدعم كلّياً، هو في الواقع مُحتسب على أساس سعر صرف بحدود 7,500 ليرة للدولار، في حين أن سعر صفيحة البنزين الذي قد يصل إلى حدود 75,000 ليرة هو مُحتسب أيضاً على أساس سعر صرف السوق السوداء اليوم، وعلى أساس سعر برميل النفط العالمي السائد حالياً عند مستويات متدنيّة نسبياً وذلك بمتوسط لم يتجاوز هذا العام عتبة الـ45 دولاراً للبرميل الواحد. وبالتالي، فإن أي تدهور إضافي محتمل في سعر صرف السوق السوداء عقب رفع الدعم من قِبل مصرف لبنان يعني مزيداً من التآكل في القدرة الشرائية لدى المواطنين، وربما انفجاراً اجتماعياً قد يعكسه تردّي الأوضاع المعيشية عموماً.
في التفاصيل، إن ما يجري تداوله اليوم بشكل جدّي في كواليس مصرف لبنان هو اللجوء في المرحلة الأولى إلى آلية “ترشيد” دعم “المركزي” للمواد الأساسية، أي العمل على توزيع بطاقات مصرفية أو ما يشابهها لجميع اللبنانيين، على غرار البطاقة الذكية في سوريا، والتي تتضمّن دفعات شهرية تموّل الحصّة المعطاة لكلّ أسرة لبنانية من هذه المواد المدعومة، مع ما يمكن أن تواجهه هذه الآلية من صعوبات تطبيقية على الأرض في ظل غيابٍ للإحصاءات الرسمية عن التعداد البشري على كامل مساحة لبنان الجغرافية. غير أنه في حال لم يطرأ أيّ خرق جدّي على صعيد الأوضاع السياسية والاقتصادية الراهنة في الداخل اللبناني، فإن قدرة المصرف المركزي على الصمود حتى في عملية توزيع بطاقات التموين لجميع اللبنانيين لن تدوم طويلاً، وبالتالي فقد يلجأ في مراحل لاحقة إلى رفع الدعم جزئياً عن المواد الأساسية، أي مع إبقائه للشرائح الفقيرة فقط من المجتمع اللبناني وربما لبعض القطاعات الإنتاجية الأساسية. وهذا ما كانت وزارة الاقتصاد قد أشارت إليه في دراسة أعدّتها في مرحلة سابقة حين حدّدت فيها عدد الأسر اللبنانية التي ترزح تحت خطّ الفقر بحوالى 325 ألف أسرة، أي مليون و300 ألف مواطن لبناني تقريباً، علماً أن هذه الأرقام تشوبها بعض التحفّظات نظراً إلى تقديرات لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) التي أشارت أخيراً في تقريرها إلى أن 55% من الشعب اللبناني بات يرزح تحت خط الفقر. كما طرحت وزارة الاقتصاد في خطّتها إمكان توزيع قسائم شرائية لسائقي المواصلات العامة على أساس نوع المركبة وعدد الكيلومترات المقطوعة بفضل نظام”GPS” مثبّت على كل مركبة عمومية، إضافةً إلى إمكان توزيع قسائم شرائية للمزارعين والصناعيين بحسب متوسط الاستخدام التاريخي للمصانع وبحسب مساحة الأراضي الزراعية.
في المقابل، يجري نقاش في كواليس مصرف لبنان حول إمكان استثناء قطاع الأدوية من رفع الدعم نظراً إلى تداعياته الكارثية على المواطن اللبناني، إنسانياً وصحياً، وحتى على ميزانيات شركات التأمين والصناديق الضامنة من ضمان اجتماعي وتعاونية موظفين خصوصاً. في الواقع، إن ميزانيات هذه الصناديق هي حصراً بالليرة اللبنانية، فضلاً عن أن إيراداتها قد تضاءلت هذا العام بسبب تراجع قيمة الاشتراكات الشهرية الناجم عن تسريح عدد كبير من الموظفين من عملهم في ظل الظروف الاقتصادية المأزومة. وبالتالي، قد لا يكون أمام هذه الصناديق الضامنة ما يكفي من الأموال لتغطية الزيادة المتوقعة في فاتورة الدواء من جرّاء أي رفع دعم محتمل عن الأدوية، ولذلك فقد تصبح هذه المؤسسات من شركات تأمين أو صناديق ضامنة أمام خيارين، إما الإفلاس وإما الترشيد عبر تقليل نسبة المستفيدين أو نسبة تغطية الأدوية أو حتى عبر رفع قيمة الاشتراكات الشهرية.
في الختام، الأكيد أن منحى رفع الدعم قد بدأ فعلياً، ولم يبقَ أمام اللبنانيين سوى انتظار الآليات المقترحة خلال الأسابيع القليلة المقبلة، مع تركّز النقاش اليوم حول الخروج التدريجي من مظلّة سعر الصرف الرسمي 1515 ليرة للدولار باتجاه سعر صرف المنصة الالكترونية البالغ اليوم 3,900 ليرة للدولار، وليس من المتوقع أن يبقى هذا الأخير ثابتاً في حال شهدت السوق السوداء ارتفاعاً إضافياً في سعر الصرف. من هنا، فإن السبيل الوحيد اليوم للخروج من هذه الأزمة المستفحلة، وتحديداً من هذا السيناريو السوداوي الماثل أمامنا، يكمن في تشكيل حكومة فاعلة ومنتجة، تُرضي المجتمع الدولي وتكون قادرة على إطلاق سريع وجدّي لعجلة الإصلاحات الهيكلية المطلوبة، وبالتالي ضمان تمويل أجنبي، إذ لا يمكن لبنان أن ينهض اقتصادياً أو أن يستقيم نقدياً من دون المساعدات الخارجية نظراً إلى الثغرات التمويلية الهائلة التي يعاني منها عموماً، وهو ما يسلّط الضوء على الأهمية القصوى للاتفاق على برنامج ينخرط فيه صندوق النقد الدولي من أجل إعطاء صدقية للمساعي الإصلاحية المطروحة وتعزيز القدرة على استقطاب المساعدات المرجوّة من الخارج وعلى تحرير جزء من مساعدات مؤتمر “سيدر”، مع ما يشكّله الصندوق من ضمانة للدول المانحة. وعليه، فإن لبنان اليوم أمام مفترق طرق، فإمّا ترشيد الدعم والاستفادة من الاحتياطات الأجنبية المتبقّية من أجل الحفاظ على قدرة مصرف لبنان في التدخّل في سوق القطع، وإما قد نصل إلى يوم يعجز فيه المصرف المركزي عن دعم السلع الأساسية وعلى ضبط السوق، وهنا قد تقع الكارثة الكبرى.
خبير اقتصادي وأستاذ جامعي.