The News Jadidouna

في انتظار قيام سلطة قضائية تتصدّى للفساد

كتب د. جورج صدقه في الجمهورية
مرّ تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في مجلس الوزراء قبل أيام بصمت تام، لم يصفّق لها أحد في الوقت الذي تشكو فيه البلاد من حال فساد عام طال دوائرها ومؤسساتها ورجالاتها وقاد البلاد الى التفكك وقاد الشعب الى الفقر والجوع والبرد. فلا أحد يصدّق بعد المنظومة الحاكمة وقراراتها، ولا أحد يؤمن بأنّ هذه المنظومة الحاكمة تريد فعلاً محاربة الفساد وتنزيه الممارسة العامة. فمحاربة الفساد تمرّ حكماً بمحاكمة هؤلاء المسؤولين الذين سَطوا على أموال الدولة وأموال الناس وأطاحوا بالدستور والقوانين. فهل يعقل أن يقوم هؤلاء بمحاكمة ذاتهم!!

لقد سبق للمنظومة أن أنشأت وزارة في حكومة سابقة لمحاربة الفساد، ورحلت الحكومة ولم تعثر على فاسد واحد؟ والقصّة تتكرّر مع اللجنة الحاليّة. فهل هذه اللجنة ستجرؤ على المَسّ بسارقي المال العام من مسؤولين تعاقبوا في أعلى مسؤوليات الدولة وهم ما زالوا في مناصبهم؟ فهل محاربة الفساد تتطلب تشكيل لجنة اضافية!! انها لجنة من باب الدعاية (أو الدعابة) وتهدف الى التبرؤ من الجرائم التي ارتكبتها المنظومة.

لا، ليس هكذا تتمّ محاربة الفساد.

تضجّ فرنسا هذه الايام بفضيحة كشف عنها صحافي قام بتحقيق استقصائي عن وضع مؤسّسة تدير مأوى عجزة ونشره في كتاب يبيّن فيه المعاملة السيّئة التي يتعرّض لها المسنّون في منازل الراحة هذه، ويروي سعي الادارة الى توفير المال من خلال خفض تقديمات الطعام والعناية وغيرها. منذ صدور الكتاب باتت هذه القضية في صدارة اهتمام المسؤولين ووسائل الاعلام على رغم انغماس فرنسا في الحملة الانتخابية الرئاسية التي ستجري بعد اسابيع معدودة.

وفور الكشف عن الفضيحة تمّت اقالة مدير المؤسسة، تحرّك وزير الشؤون الاجتماعية، وزارة الصحة، القضاء، هيئات التفتيش، كل ذلك تلقائياً من أجل معالجة خلل وضبط اداء سيئ.

عندنا فضائح كل يوم أخطر من هذه بكثير، وليس هناك من يشعر بأنه معني بالتصدّي لها بينما هناك مؤسسات رقابية وقضائية كتلك الموجودة في فرنسا، فلماذا لا تقوم بدورها؟ ثم أين هو القضاء الذي يفترض أن يتحرّك تلقائيا للقيام بدوره؟

يكفي أن نرى اذلال المواطنين كل يوم أمام أبواب المصارف للحصول على فتات من أموالهم الخاصة. وفي الايام الماضية رأينا الموظفين عاجزين عن قبض رواتبهم بالعملة الوطنية، وإذا بالمصارف تمنع عنهم ذلك وتفرض عليهم أن يقبضوا الجزء المتيسّر من الراتب بالدولار الاميركي. أخفوا العملة الوطنية التي تنصّ القوانين على إلزامية التعامل بها، ومنعوا عن الموظف الراتب الذي هو حصيلة تعبه، أوليس كل هذا من باب الفساد والسرقة وخرق القوانين والمبادئ العامة لحسن سير الامور!!

كل يوم فضائح فساد مستمرة من الادوية التي تختفي من الصيدليات، او التي تباع بأضعاف اسعارها، الى فضائح التسعير في المحلات التجارية، الى مافيات التهريب المشرّع، الى ملفات الادارة السائبة، الى الشهادات المزوّرة والجامعات الدكاكين، الى صفقات النفايات التي تغرق المواطنين… والتعداد لا ينتهي. أوليس كل هذا فسادا؟ فلا من يكترث.

هناك الكثير من الهيئات التي يفترض بها متابعة هذه الملفات وملاحقة مرتكبيها. هيئات رقابية، إدارات عامة، ديوان محاسبة، وخصوصا القضاء الذي تناط به فتح كل ملفات الفساد ومحاكمة المرتكبين، لكن كل هذه الدوائر لا تقوم بعملها. فكيف يمكننا أن نصدّق أن الهيئة الجديدة لمكافحة الفساد ستقوم بدورها فيما هي لا تزال على الورق في غياب نظام داخلي لها وموازنات وجهاز اداري وآلية عمل. هي تذكرنا بالهيئات الرقابية على المصارف او باللجان الناظمة للكهرباء والنتائج نعرفها.

لا مانع من أن نكرر القول انّ لبنان في حال انهيار عام بسبب منظومة حاكمة تستبيح كل شيء، تسمح لنفسها بخرق القوانين وتعطيلها وصولاً الى تعطيل القضاء. ليس هذه السلطة من سيضع لبنان على سكة الاصلاح. لا بل ان أي اصلاح يمرّ بإحالة هذه السلطة بذاتها أمام المحاكم من أجل تبيان سبب الانهيار، ومن أجل تحديد المسؤوليات.

ان الخطوة الاولى الضرورية لأي اصلاح هي اعادة احياء الجهاز القضائي وتطبيق القوانين. ولا يمكن لأي دولة أن تنتظم من دون قضاء حرّ يطبّق القوانين ويحمي المواطن ويراقب عمل المؤسسات. وهذا الامر غير متوفر حاليا في لبنان. هذه هي نقطة الانطلاق. فالسلطة الحاليّة ما تزال تستعمل القضاء اداة بيدها للاستمرار في تسلّطها. هي لن ترتدع عن نهجها ولن تتخلّى عن امتيازاتها، هي غير معتادة على ان يحاسبها أو يسائلها أحد عن ممارساتها، ولو كان هناك من مساءلة ومحاسبة لما وصل لبنان الى ما هو عليه اليوم. فهل يعقل أن يمرّ السطو على أموال الدولة وأملاكها والسطو على أموال المواطنين وجنى عمرهم من دون أي محاسبة؟

وما يؤكد أن صفقات الفساد مستمرّة ما يدرس في مشروع الموازنة حول تمويل الكهرباء والتصرّف بأملاك الدولة، والنقاشات حول كيفيّة توزيع الخسائر المالية، من دون ذكر واقع الاموال المنهوبة والاموال المهرّبة وكأنها باتت حقوقاً مكتسبة لناهبيها.

لا شيء يعيد سلطة الدولة ويضبط الاداء العام ويعيد للشعب اللبناني كرامته وثقته بدولته سوى جهاز قضائي متحرّر من المنظومة السياسية يكون قادرا على محاسبتها وعلى تطبيق سلطة القانون واقرار العدالة.

باختصار ان حلّ مشكلة الفساد تختصر برحيل الفاسدين عن السلطة واحالتهم أمام القضاء. هذه هي القاعدة العامة المطبّقة في الدول حيث هناك قوانين وحيث هناك رجال دولة وحيث هناك مواطن له الاحترام الذي يستحق.

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

Privacy & Cookies Policy