
اللواء
في لحظة فارقة من التصعيد الإقليمي، وتحت عنوانٍ يحمل دلالات رمزية وتهديدًا واضحًا، نفّذت إسرائيل واحدة من أخطر عملياتها العسكرية منذ تأسيسها، “الأسد الصاعد”.
لم تكن الغارات الجوية التي استهدفت مواقع استراتيجية في قلب العاصمة الإيرانية مجرد ضربة تكتيكية، بل إعلانًا صريحًا بأن اللعبة قد تغيّرت، وأن خطوط الاشتباك باتت بلا حدود جغرافية أو سياسية.
الضربة التي كسرت السقف
فجرًا، تسللت الطائرات الإسرائيلية إلى عمق المجال الجوي الإيراني، مستهدفة منشآت عسكرية، مراكز قيادة، ومواقع مرتبطة بالبرنامج النووي، لتُعلن أنها تجاوزت مرحلة الحرب بالوكالة. لكن الحدث الأكثر صدمة لم يكن في نوعية الأهداف، بل في دقة الضربات، واغتيال شخصيات بارزة، على رأسهم قائد الحرس الثوري حسين سلامي وعدد من كبار العلماء النوويين.
باغتيال سلامي، لم تعد إسرائيل تستهدف القدرات فحسب، بل الرموز، في عملية تهدف إلى زعزعة توازن الردع الإيراني من الداخل.
ورغم خطورة العملية، جاء الموقف الأميركي متحفظًا بشكل لافت. البيت الأبيض سارع إلى النأي بنفسه عن الضربة، مؤكدًا “ليست لنا علاقة بالعملية”. لكن هذا التصريح، رغم برودته، حمل إشارات مركبة. فهل هو ضوء أخضر غير مباشر لإسرائيل؟ أم محاولة لحماية واشنطن من تبعات المواجهة الإقليمية؟ في الحالتين، تبقى أميركا هي الفاعل غير الظاهر في المعادلة، تدعم حليفتها من الخلف دون التورط المباشر، متمسكة بسياسة الإنهاك المتبادل بين الخصوم.
رغم جرأة العملية، من الخطأ الاعتقاد أن إسرائيل قادرة على خوض مواجهة شاملة مع إيران بمفردها. فالقدرات الجوية الإسرائيلية، وإن كانت متقدمة، لا تكفي لتغطية صراع طويل مع دولة بحجم إيران، تمتد مصالحها ونفوذها عبر مساحات جغرافية معقدة، من الخليج إلى المتوسط. والأسوأ أن الرد الإيراني إن جاء، قد يكون كثيفًا ومفاجئًا، عبر صواريخ دقيقة من قبل اذرعها في المنطقة ، أو هجمات على العمق الإسرائيلي من اليمن والعراق وحتى داخل الأراضي المحتلة، او استهداف المصالح الاميركية بالمنطقة.
والسؤال الأكبر: كيف ستؤمّن إسرائيل جبهتها الداخلية إن انهمر عليها وابل من الصواريخ الباليستية التي يتجاوز عددها الألف؟ وهل سيبقى الأميركيون على الحياد إن اندلعت الحرب فعليًا؟
لا يمكن فصل “الأسد الصاعد” عن سياق إقليمي ملتهب. من التوتر في البحر الأحمر، إلى تصاعد المواجهات في الجنوب اللبناني، وحتى التغيرات في الميدان السوري، كل هذه الجبهات تشير إلى تآكل هامش المناورة الإسرائيلي.
إيران من جهتها كانت تعزز أوراق نفوذها، لكنها بدأت تخسر تباعًا نقاط ارتكاز استراتيجية، لا سيما في سوريا، حيث لم تعد قادرة على العمل بحرية كما في السابق.
وسط هذا التراجع النسبي، أرادت إسرائيل توجيه ضربة تعيد رسم قواعد الاشتباك.
الكرة الآن في ملعب طهران. ولدى إيران ثلاثة سيناريوهات متوقعة:
1.الرد المحدود: عبر استهداف مصالح إسرائيلية في الخارج، أو استخدام وكلائها، بما يحفظ ماء الوجه دون إشعال حرب واسعة.
2.الرد المباشر: عبر قصف أهداف داخل إسرائيل، مما قد يشعل حربًا إقليمية شاملة، تحمل مخاطر لا يمكن التنبؤ بمداها.
3.الرد المؤجل: وهو ما تجيده إيران، حيث تمتص الضربة حاليًا، لكنها تخطط لرد أكبر في توقيت مفاجئ يغير قواعد اللعبة.
في كل الأحوال، يبقى الرد مسألة وقت لا أكثر. فالحرس الثوري، الذي بنى صورته على قاعدة “الهيبة أولًا”، لن يقبل أن يُنظر إليه كضعيف أو متردد. ومع اغتيال قائده الأعلى، فإن منطق الانتقام سيكون أقوى من أي اعتبارات دبلوماسية.
هل اقتربت ساعة الحرب الكبرى؟
الأخطر من كل ما سبق أن تتحول المنطقة إلى ساحة حرب واسعة، تتداخل فيها مصالح إقليمية ودولية. وإذا ما اندلعت المواجهة المباشرة بين طهران وتل أبيب، فإن حدود الصراع لن تبقى جغرافية. من الخليج إلى البحر الأبيض، ومن القوقاز إلى المتوسط، كل طرف لديه ما يخسره وما يدافع عنه.
وإذا كان اغتيال قاسم سليماني عام 2020 قد دفع المنطقة إلى حافة الانفجار، فإن اغتيال سلامي اليوم قد يكون الشرارة الفعلية لحرب إقليمية مفتوحة.
نحن أمام مفترق تاريخي. “الأسد الصاعد” ليس مجرد عملية عسكرية، بل مقدمة لتغيير عميق في ملامح المنطقة. إذا ردّت إيران، فإن حربًا طويلة قد تندلع، تُغيّر خريطة النفوذ والاصطفافات. وإذا لم ترد، فإن صورتها كقوة إقليمية ستُصاب بضرر يصعب ترميمه.
حتماً ان الشرق الأوسط، كما نعرفه، يدخل مرحلة جديدة. شرق أوسط جديد يولد… لكن من رحم النار.