
يقف لبنان أمام محطة تاريخية قد لا تتكرّر، فليس تفصيلاً إطلاق آلية لتسليم سلاح الفصائل الفلسطينية في المخيمات، وفق جدول زمني منذ منتصف حزيران الجاري.
تعود الذاكرة في هذه اللحظة إلى العام 1969، يوم حصلت منظمة التحرير الفلسطينية على ضوء أخضر عربي في القاهرة، بالعمل الفدائي المسلّح ضد إسرائيل، إنطلاقاً من الأراضي اللبنانية.
كان لبنان يعيش آنذاك عصره الذهبي، في الخمسينات والستينات، قبلةً للشرق في السياحة والتعليم والإئتمان المصرفي والاستشفاء، وملجأ في الوقت نفسه للمضطهدين في هذا الشرق، فكان واحة للحرية والفكر والصحافة والمعتقد.
استحقّ لقب سويسرا الشرق، وحلم جيرانه بتجربة تشبه بيروت التي لا تنام، والتقاء الساحل والجبل في أروع مشهد سياحي استقطب حركة الاصطياف من الدول العربية والعالم.
لم ينجح قادة لبنان، على اختلاف أطيافهم، في أن يحموا هذا الوطن الصغير، صاحب التجربة النموذجية، من الانزلاق إلى لعبة المحاور. لا بل كانوا جزءاً منها، وسلّموا بلدهم بأيديهم ليصبح ساحة دموية وصندوق بريد لأبشع الحروب على أرضه.
خسر لبنان نفسه، ولم تربح فلسطين. ضاع حلم “سويسرا الشرق”، كما ضاعت فلسطين أكثر من أبنائها. دُمّرت بيروت على وقع الاجتياح الإسرائيلي الأول لعاصمة عربية، وكانت النتيجة خروج المسلّحين الفلسطينيين بعتادهم وعديدهم من لبنان، لتقلّهم البواخر إلى تونس، وخلفهم حلمَين ضائعين، فلا لبنان بقي ولا فلسطين عادت.
توالت المغامرات فصولاً، سًلِّم لبنان للوصاية السورية، وبقي ساحة للفصائل المسلّحة لبنانية كانت أو فلسطينية، وإن بانتماءات وولاءات جديدة. البندقية تغيّرت فقط، وبقي لبنان مسروقاً بلا إرادة ولا دولة ولا سيادة.
ضحّى اللبنانيون كثيراً من أجل القضية الفلسطينية. دفعوا الفاتورة الأغلى على مدى 56 عاماً، وصولاً إلى إعلان حزب الله حرب إسناد غزة بعد “طوفان الأقصى” في 7 أوكتوبر 2023، وكانت النتيجة عدواناً مدمّراً أزال أكثر من 60 قرية حدودية من الوجود.
قد يكون حان الوقت فعلاً لوضع حدّ للمأساة اللبنانية الفلسطينية المشتركة. فالسلاح داخل المخيمات لم يكن طوال عقود إلا أداة اقتتال فلسطيني فلسطيني، قبل أن يكون مصدر قلق للبنان. وتشكّل زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس فرصة سانحة للانطلاق جدياً نحو مسار جديد يمنح مناطق الشتات حياة كريمة إلى حين إنجاز حق العودة، وفي الوقت نفسه يضعها تحت حماية الدولة اللبنانية، لا خطفها من هذا الفصيل أو ذاك.
تملك حركة حماس الكلمة الفصل اليوم. وترقّب أساسي لموقفها بعد إعلان أبو مازن انتهاء زمن السلاح الفلسطيني في المخيمات. فالخيارات محدودة أمام الحركة المتعَبة بعد حرب قطاع غزة، والضغوطات التي تتعرّض لها في العواصم التي كانت حاضنة لها في السابق.
تحرص “حماس” على إظهار الايجابية، مدركة أن مشهد العام 1982 وخروج “فتح” العسكرية من لبنان قد يتكرّر معها. لكن السؤال إلى أين ستغادر حماس؟ وأي دولة ستكون مستعدة لاستقبالها؟
تبدو الإجابة صعبة، وستكون الحركة أمام تحدٍّ كبير لملاقاة لبنان إلى نقطة التقاء لا صدام، مع إدراك مشترك من الجانبين أن هذا الملف لا يعالَج بالقوة، ولا مجال لتكرار مشهد العام 2007 في نهر البارد.
فُتح النقاش على نطاق واسع، وتحذير المجلس الأعلى للدفاع كان إشارة واضحة الى أن الزمن تغيّر، ولا مكان اليوم للاستخفاف بقدرة الدولة اللبنانية على اتخاذ قرارات لم تكن متوقعة في السابق.
حان الوقت فعلاً لنقد ذاتي فلسطيني لبناني، من أجل الخطوة الأجرأ، وكتابة الفصل الأخير من معاناة شعبين دفعا كثيراً وخسرا كثيراً، ويستحقان زمناً أفضل، أكان للّبناني في بلده أو للفلسطيني في المخيّم. فالإقامة المؤقتة في الشتات لا تعني أيضاً الموت اليومي البطيئ… فهل ستنجح “فتح” كما “حماس” في الاختبار اللبناني؟
نادر حجاز – Mtv