The News Jadidouna

البطريرك الياس الحويك : حياته وأبرز إنجازاته في سطور

البطريرك الياس الحويك
حياته وأبرز إنجازاته في سطور
الدكتور روني سمعان خليل أحد أساتذة التاريخ في الجامعة اللبنانية
نشأته وكهنوته:
ولد الياس الحويك في حلتا – البترون في كانون الأول من العام 1843، كان والده كاهناً فتأثر به، تعلّم في مدرسة مار يوحنا مارون كفرحي ثم سنة 1859 تابع علومه في مدرسة الآباء اليسوعيين – غزير حيث تلقّن العلوم المختلفة واللغات الفرنسية والإيطالية واليونانية الى جانب ما كان يتقنه من السريانية والعربية. ونظراً لنباهته، أرسله البطريرك بولس مسعد سنة 1866 الى روما بغية متابعة تخصصه فدخل مدرسة مجمع نشر الإيمان حيث مكث فيها حتى سنة 1870، نال خلالها شهادة الملفنة في الفلسفة واللاهوت ورقّي الى الدرجة الكهنوتية في العام المذكور على يد المطران يوسف جعجع في روما. وبعد رجوعه الى الوطن، أخذ يعلّم في مدرسة كفرحي. سنة 1872 عيّنه البطريرك بولس مسعد كاتباً لأسراره حتى تاريخ سيامته الأسقفية في العام 1889 على عكا ثم أقامه البطريرك يوحنا الحاج (1890- 1898) نائباً عاما له على منطقة جبيل والبترون، بعد أن أرسله الى روما موفداً عنه لاستمداد درع التثبيت.
بعد وفاة البطريرك مسعد العام 1890، راجت داخل أوساط بكركي، فكرة انتخابه بطريركاً غير أنّ قصر مدة أسقفيته وعدم دعم القنصل الفرنسي له حالا دون وصوله الى السدة البطريركية، وجدير بالذكر أن الحويك كان على صداقة متينة مع القنصل الفرنسي لكنه على خلاف مع المتصرف واصا باشا نظراً لسياسته الضرائبية الظالمة بحق الأهلين، فتفادياً لاشتداد الخلاف، ولعدم إغضاب المتصرف وكذلك السلطنة العثمانية، حُيّد الحويك عن البطريركية هذه المرة.
أبرز نشاطاته الاسقفية:
كان الحويك اليد اليمنى للبطريرك الحاج، وسفير الطائفة إن صح القول في الأقطار الإقليمية والخارجية، والمحرّك الأساس لمشاريع رعوية واجتماعية عدة، فبعد مفاوضات طويلة استطاع تأسيس نيابة بطريركية في باريس سنة 1890، وكذلك في العام 1891 استطاع الحصول على معبد في باريس قام بترميمه وتأثيثه ليكون بمثابة كابلا للطائفة هناك وبيتاً للكاهن. وضمن السياق عينه، أسس داراً للبطريركية في القدس في العام 1895 وجمع لها التبرعات والهبات من بعض المتمولين الموارنة. في العام ذاته بدأ بتأسيس جمعية راهبات العائلة المقدسة مع الأخت روزالي نصر ووضع قوانينها؛ الكمال الشخصي، الأعمال الإنسانية وترتيب الفتيات على أسس الدين والعلم والعمل. وما زالت جمعيته آخذة بالإزدهار الروحي والاجتماعي. وبعد مراسلات عديدة بين الحويك والقصادة الرسولية من جهة وراهبات أجنبيات، تمكّن من تسلّم مستشفى عمشيت في العام 1891، ثم عاد وأوكل راهبات مار يوسف الفرنسيات إدارته في العام 1893، مقابل شروط اتفق معهن عليها. وبات في العام 1895 مجهزاً بأحدث الآلات الطبية وأمهر الأطباء.
تابع أسفاره فزار روما ممثلاً البطريرك الحاج لتقديم التهاني للبابا لاوون 13 بمناسبة يوبيله الحمسين لارتقائه الأسقفية، في العام 1893. وحضر المجمع القرباني في أورشليم في العام المذكور على رأس وفد ضم الأساقفة نعمة الله سلوان ويوسف الدبس ويوحنا مراد واسطفان عواد، وحضر أيضاً مجمع ريمس – فرنسا في العام 1894، ومجمع البطاركة الكاثوليك في الفاتيكان في خريف العام نفسه ممثلاً الحاج أيضاً.
في العام المذكور، قصد مصر بزيارة رعوية حيث قابل الخديوي وبعض قناصل الدول الأجنبية تزامناً مع زيارته للجالية المارونية هناك مطلعاً على أحوالهم وشؤونهم.
في سنة 1898 مثّل البطريرك مجدداً في مجمع البطاركة الشرقيين في روما، وشدد سيادته في المجامع المذكورة على خصوصية الطائفة المارونية ومشرقيتها إزاء حركة الليتنة التي راجت بقوة خلال تلك الفترة.
علاقته بالسلطنة العثمانية:
كان محط احترام لدى العديد من أركان السلطنة العثمانية نظراً لشخصيته ومواقفه وخلال زيارة قام بها الى الآستانة (تركيا) في العام 1891 مُنح الوسام المجيدي من الرتبة الثانية ومبلغ 10 آلاف فرنك دعماً للمدرسة المارونية في روما. وما يدل على مواقفه الوطنية ودفاعه عن حقوق طائفته هو رفضه طلب سفير السلطنة في روما تقديم الفرمان من قبل البطريرك يوحنا الحاج بعيد انتخابه، وذلك خلال سفر الحويك الى المدينة المذكورة وقدّم سيادته البراهين الكافية متمسكاً بتقاليد طائفته فتراجع السفير عن مطلبه.
ترأسه المدرسة المارونية حتى العام 1898 تاريخ وفاة البطريرك الحاج:
سنة 1890، وخلال وجوده في روما، طالب المجمع المقدس باستعادة المدرسة المارونية (كان قد احتلها نابليون بونابرت سنة 1798 وبيعت في العام 1812)، وبعد مفاوضات شاقة، استطاع الحصول على مطلبه، فبدأ بجمع المساعدات تمهيداً لإعادة فتحها بملكية الطائفة، فسافر الى فرنسا ثم الى النمسا لتحقيق هذه الرغبة وجال على العديد من المسؤولين الغربيين وكذلك فعل فزار السلطنة حيث نال مبلغ 10 آلاف فرنك دعماً لمشروعه ما يدل على اعتبار السلطنة العثمانية لشخصه. وفي العام 1893، وُفّق الحويك بدار اشتراه بقيمة 150 ألف فرنك في شارع “فيا بنشيانا” ليكون المدرسة المارونية الجديدة، وكانت الطائفة قد أمّنت 100 ألف فرنك في حين دفع الحبر الأعظم المبلغ المتبقي، وفي خريف ذاك العام، بات المبنى مجهزاً لاستقبال الطلاب الذين بدأوا يتوافدون إليه من الأبرشيات المارونية وظلت المدرسة بعطائها التربوي والروحي حتى سنة 1939 حين أقفلت. وترأسها سيادته بين سنة 1897 و 1898 فدبرها خير تدبير.
واستطاع كذلك الحصول على 8 مقاعد لطلاب موارنة في مدرسة سان سولبيس الفرنسية.
الياس الحويك البطريرك:
بعد وفاة البطريرك يوحنا الحاج، إنتخبه أساقفة الطائفة بطريركاً في 6 كانون الثاني 1899. وفي 14 أيلول من السنة المذكورة احتفل غبطته بلبس الباليوم (عبارة عن عباءة يمنحها الحبر الاعظم للبطريرك المنتخب إيذاناً ببسط سلطته الحبرية) في الديمان بعدما استحضره له المطران بولس بصبوص. كما وحصل على الوسام المجيدي من الرتبة الأولى من السلطنة العثمانية بعيد انتخابه بطريركاً وكذلك منحته فرنسا وسام جوقة الشرف من رتبة كومندور كما وأهداه البطريرك الأورشليمي وسام القبر المقدس.
وبعيد انتخابه أشاد به القاصد الرسولي لودوفيكس بيافي قائلاً:” هنيئاً للموارنة فقد قيّض الله لهم بطريركاً في سنّ يمكّنه من إسعادهم وخدمتهم فهو بحمده تعال قوي البنية عانى ما عاناه حتى الآن في سبيل خدمتهم ولسوف يواصل خطته هذا فضلاً عن انه حكيم قد أكسبته الأيام حنكة نادرة وخبرة تامة في شؤون طائفته عزّ نظيرها عند سواه.”

أعماله البطريركية:
قام بأعمال عدّة خلال بطريركيته، وهذا أبرز ما قام به بسطور:
– جرّ المياه إلى صرح بكركي وبنى جسراً يصل الصرح ببلدة زوق مكايل،
– قام بتشجير غابة صنوبر في محيط الصرح وزاد من أملاك الكرسي،
– رمم الصرح البطريركي في جديدة قنوبين (الديمان) سنة 1899 على طراز حديث وكذلك فعل في دير قنوبين القديم في العام 1909،
– اعتنى بإصلاح كنيسة السيدة في بشري وبتجديد بناء دير مار سمعان القرن كما ساعد في إكمال بناء كنيسة شاتين وسواها من الانجازات الرعوية المماثلة… ناهيك عن عنايته بالرهبانيات وبالأبرشيات ومدارسها،
– أكثر من زياراته الرعوية للأبرشيات،
– إهتم بالتعليم وشجع على إقامة المدارس، وأرسل الطلاب لمتابعة التخصص في روما،
– أسس نيابة بطريركية في مصر في العام 1904، وبنى كنيسة هناك،
– قسّم أبرشية صيدا وصور الى أبرشيتين مستقلتين،
– تابع شؤون المهاجرين فأرسل لهم الكهنة لخدمتهم،
– تابع أسفاره فزار روما وفرنسا ومصر والآستانة متفقداً أحوال اللبنانيين هناك،
– في العام 1904 بدأ العمل بتشييد مزار سيدة حريصا – درعون وانتهى بناؤه في العام 1908،
– في سنة 1930، تم إعطاء رخصة لمجلة المنارة (تابعة لجمعية المرسلين الموارنة) التي ما زالت حتى يومنا هذا تقدّم المعارف والعلوم لقرائها،
– في تشرين الأول 1926 تم إعلان تطويب الإخوة المسابكيين “الشهداء”. وفي السنة المذكورة قدّمت الرهبانية اللبنانية المارونية الى مجمع القديسين دعوى قديسيها الأب شربل مخلوف والأخت رفقا الريّس والأب نعمة الله كساب الحرديني.
مواقفه الوطنية:
أدى البطريرك الحويك أدواراً وطنية بارزة فهو إن صح القول “عرّاب لبنان الكبير” ولا ننسى دوره الاجتماعي والوطني خلال الحرب العالمية الأولى ومواقفه بوجه القائد العثماني جمال باشا، وهذا سرد لأبرز ما قام به وطنياً.
موقفه من جمال باشا خلال الحرب العالمية الاولى:
دخلت السلطنة العثمانية الحرب الى جانب دول الوسط (ألمانيا- النمسا) مجابهة بذلك دول الحلفاء (فرنسا – بريطانيا- روسيا والولايات المتحدة لاحقاً)، وترتب على دخولها، إرسال فرقة عثمانية بقيادة جمال باشا الى جبل لبنان، فاخترق نظام المتصرفية ومارس سياسة ظالمة بحق الأهلين من فرض السخرة الى التجنيد الاجباري وتحويل الاديرة والمدارس الى ثكنات عسكرية وسواها من الخطوات التي أوصلت الى مجاعة رهيبة مع جملة عوامل أخرى داخلية منها وخارجية أيضاً. فرزح الجبل تحت وطأة مجاعة أودت بحياة 200 الف مواطن، على الرغم من المحاولات الحثيثة التي قامت بها البطريركية فأطعمت العديد من الجائعين وفتحت أبواب الأديرة ورهن غبطته لصالح القنصلية صليبه وأراض شاسعة مقابل الحصول على النقود لإطعام أبناء بلده.
وخلال تلك الفترة، سعى القائد جمال باشا في التضييق على البطريرك نظراً لعلاقته الوثيقة بفرنسا، فطلب منه الفرمان مراراً، ولعد إغضابه أكثر، ودرءاً للمخاطر التي يمكن أن تحدق بالشعب، قدّم البطريرك الفرمان ليس قناعة منه بل تحاشياً للصراع مع العثمانيين وتماشياً مع الظروف. كما وطلب جمال باشا حضوره الى صوفر ففعل أيضاً في صيف 1915 وكذلك فعل في ربيع العام 1916 إذ زاره في مقره في بيروت. وفي صيف 1917 نجا غبطته من محاولة نفي كان دبّرها له جمال باشا إذ استدعاه الى مقره في صوفر، فعلم غبطته نية القائد المذكور وكان القنصل الفرنسي قد حذّره بعدم التوجه، وبعد إشاعة الخبر، توجّه البطريرك الى بحمدون فصوفر حيث التقى بجمال باشا الذي تراجع عن نيته بعد شيوع الخبر. أما المقابلة الرابعة والأخيرة فكانت في كانون الأول 1917 في بيروت.
الطروحات التي ظهرت خلال الحرب العالمية الأولى:
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى العام 1918، وخسارة دول الوسط، بدأت الطروحات الاستقلالية في المنطقة في الظهور، وتوزعت على الشكل الآتي؛
– الوحدة العربيّة في إطار مملكة يرأسها الشريف حسين أو ابنه الأمير فيصل بتأييد إسلاميّ كبير ومن بعض أعيان طائفة الروم الأرثوذكس، بحيث تترابط دولها بما يشبه الترابط بين الولايات المتحدة الأميركيّة ما يعني أن يتمتّع كلّ قطر باستقلاله الداخليّ فيما تتولّى الحكومة المركزيّة السياسة الخارجيّة. وتتمثّل هذه الوحدة في العلَم الواحد والجيش الواحد والنقد الواحد وفي جوزات السفر والمصالح الاقتصاديّة. واعتبر الشريف حسين أنّ اللبنانيّين، ونظراً لوضعهم السابق، يمكن أن يختاروا لهم حاكمًا، شرط ألاّ يكون أوروبيًّا، أمّا في الإمارات العربيّة فتبقى الأسر الحاكمة، ويعيّن أميرها حكّام المناطق ويجبي الضرائب من دون أن يتوجّب عليه دفع أيّ ضريبة.
– سوريا الكبرى أو سوريا الطبيعية (سوريا – لبنان – فلسطين)، طالب بها بعض المفكّرين من ذوي الاتجاه العلمانيّ، مع رفض مبدئيّ لحكم الأمير فيصل، ولاقت ترحيبًا وتأييدًا من المسيحيّين والمسلمين على السّواء…
– التوجّه المنادي باستقلال لبنان وجد دعمًا فاعلًا من قبل أعضاء مجلس الإدارة ومن السلطة الروحيّة المارونيّة بشكل أساسيّ. وانقسم الداعمون لهذا الخيار بين فكرتين: الأولى تطالب باستقلال لبنان ضمن حدود لبنان الصغير، مع ضمّ بيروت فقط، لإقامة دولة ذات أكثريّة مسيحيّة، ومارونيّة تحديداً؛ والثانية، باستقلاله مع توسيع حدوده، بحيث يضمّ أيضاً بيروت وطرابلس وعكّار والبقاع وجبل عامل. وبدأ منظّرو كلّ طرح بالتجييش لأفكارهم، وعرضها على الحكومة الفرنسيّة، التي راحت توازن بين الصيغتين وتترقّب.

البطريرك الحويّك ومؤتمر الصلح:
بعد أن وضعت الحرب العالميّة الأولى أوزارها، عقد المنتصرون مؤتمرًا في باريس بدءًا من 18 كانون الثاني 1919 لتقاسم غنائم الحرب ورسم خريطة جديدة للعالم، وكانت رغبات فرنسا وبريطانيا تصبّ في خانة توسيع حدودهما وفرض نوع من الاستعمار بتسمية جديدة هو “الإنتداب”، في حين كانت الولايات المتحدة الأميركيّة في صدد دعم الشعوب المتحرّرة من الاستعمار، في حقّ تقرير مصيرها ونيل استقلالها. وسُمح في هذا المؤتمر، للشعوب بأن تبدي آراءها، فتوجّه داود عمّون رئيس مجلس إدارة جبل لبنان، الذي كان قد حلّه ابراهيم باشا، إلى فرنسا، مع وفد مرافق، وطالب بتوسيع حدود الجبل وبالاستقلال. ثمّ شكّل البطريرك الحويّك وفدًا ثانيًا في ظلّ مطالبة قويّة من الأمير فيصل بجعله حاكمًا على سوريا الكبرى، وشيوع أخبار عن تحضيرٍ لعقد اتّفاق بينه وبين رئيس الوزراء الفرنسيّ كليمنصو، يقضي بضمّ لبنان إلى سوريا ضمن وحدة فدراليّة وباعترافه بالانتداب الفرنسيّ. فسارع غبطته السفر برفقة الأساقفة شكرالله الخوري، وإغناتيوس مبارك، وبطرس الفغالي، والخوري اسطفان الدويهي، ومطران زحلة والفرزل للروم الكاثوليك كيرلّس مغبغب؛ وأبحروا في 15 تمّوز 1919 إلى فرنسا، حيث استقبلوا بحفاوة، واجتمع غبطته برئيس الدولة بوانكره، وبرئيس الوزراء كليمنصو، الذي شدد على حقّ لبنان في توسيع حدوده، من دون أن يتطرّق إلى مسألة الاستقلال. وقد دامت الزيارة حتّى كانون الأوّل 1919، تمسّك خلالها غبطته بالمطالب الآتية؛
– الاعتراف باستقلال لبنان،
– إعادة لبنان الى حدوده الطبيعية والتاريخية بإعادة الأراضي التي سلختها السلطنة،
– تطبيق العقوبات بحق مرتكبي الفظائع والجرائم خلال الحرب الكونية (ألمانيا وتركيا)،
– القبول بالإنتداب الفرنسي على لبنان شرط أن يكون مقدمة لاستقلاله.
وفي كانون الثاني 1920 تأكّدت الهواجس، إذ وقّع فيصل مع كليمنصو الاتّفاق المزعوم، فهبّ الوطنيّون وعارضوه: فمن لبنان تمّ إرسال وفد ثالث إلى المؤتمر برئاسة المطران عبدالله الخوري ضمّ الأمير توفيق إرسلان وألفرد سرسق ويوسف الجميّل وأميل إدّه، وأبحروا في كانون الثاني العام 1920. أمّا في سوريا، فأعلن المؤتمر السوريّ قيام المملكة السوريّة في 8 آذار 1920 برئاسة فيصل وفق “رغائب الأهالي”. جديرٌ بالذكر هنا اشتراك بعض الرؤساء الروحيين المسيحيين بالمبايعة، إزاء تخوّف لبنانيّ من ضمّه إلى هذه المملكة، ما حدا إلى مضاعفة الجهود للمطالبة بالاستقلال، فقامت تظاهرات شجبت مقرّرات المؤتمر، واجتمع في 22 آذار 1920 بعض شيوخ الصلح ورؤساء البلديّات وفعاليّات سياسيّة وأعضاء مجلس الإدارة في بعبدا في احتفالٍ حاشدٍ وضعوا خلاله صورة العلم بالأزرق والأبيض والأحمر وأرزة خضراء في الوسط مذكّرين بمطالبهم السابقة ومعارضين قيام المملكة السوريّة.
الملك حسين من جهته، كان يعتبر نفسه ممثّل العرب الآسيويين جميعًا، متمسّكًا بالوعود المقطوعة له من بريطانيا مقابل دعمه لهم في الحرب، غير أنّ بريطانيا وفرنسا اعترفتا به ملكًا على الحجاز فقط. ووافقت الأخيرة بأن يحضر المؤتمر بهذه الصفة فقط. رفض الحسين بداية بأن يوقّع بهذه التسمية، وأوكل إلى ابنه فيصل بأن يمثّله. وبعد مناقشات بين الحسين والمعتمد البريطانيّ لدى الحجاز، وافق الحسين على الصيغة المطروحة، واقتنع بأنّ تسمية “ملك البلاد العربية” ستثير اعتراضات الدول الأخرى، وستحول دون وجود ممثّلين عرب في المؤتمر. ثمّ صرّح الأمير فيصل بأنّ أباه “لا يريد أن يجبر العرب على قبول سيطرته”، ولكن “سلوا أهل البلاد، هم أحقّ الناس بتعيين مقدراتهم وبانتخاب الحكومة التي تناسبهم، كانت تلك الحكومة فرنسا أم اميركا أم اليابان أم العرب”. وطالب فيصل في المؤتمر بالحكومة العربيّة على اعتبار وحدة اللغة والنسب والحدود الجغرافيّة والمنافع الاقتصاديّة وقبول الشعوب العربيّة بهذه الوحدة. وكان قد طلب من أهل سوريا إرسال العرائض التي تطالب به كممثّل عنهم وناطق باسمهم في المؤتمر، وذلك ردًّا على تسمية الفرنسيين له بملك الحجاز فقط. وهنا دار الجدال بينه وبين بعض المرجعيّات العربيّة، فاعتبره شكري غانم ممثّلًا للحجاز فقط، ورفض مقولته بأنّه ممثّل العرب، كما وطلب من فرنسا بأن تسعى “لإعادة بناء سوريا تامّة مستقلّة متّحدة”. ثمّ أدلى داود عمّون بمطالبه الآنفة الذكر، وطرح الأرمن والأكراد والأشوريّون مطالبهم. وهكذا تواجهت طروحات الأمير فيصل مع طروحات جديدة أضعفت من سلطته.
على الرغم من الطروحات المقدمة، فُرض الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا في مؤتمر سان ريمو في ايطاليا، تحت وصاية عصبة الأمم، وتنفيذاً لبعض رغبات اللبنانيين وخصوصاً البطريرك الحويك رأس الطائفة المارونية، وافقت فرنسا على توسيع حدود لبنان ما عُرف بدولة لبنان الكبير.

إعلان دولة لبنان الكبير، تتويجاً لجهود البطريرك الحويّك:
في الأول من أيلول 1920، أعلن المفوّض الفرنسيّ الجنرال غورو، دولة لبنان الكبير. فاعتبره القوميّون اللبنانيّون، وتحديدًا الموارنة منهم نتاجًا لتاريخهم ونضالهم الطويل وحلمهم بالاستقلال وببناء أمّة – دولة لبنانيّة. وإذ كانوا لم يرحّبوا كثيرًا بالانتداب الفرنسيّ، إلاّ أنّهم قبلوا به تمهيدًا للاستقلال التامّ. ولن ندخل هنا في المواقف الداخلية ولا في التنظيمات الادارية كذلك في التناقضات والتغييرات على السواء التي حملتها الدولة الجديدة… وتابع البطريرك الحويك بعد هذا الإعلان سياسته الوطنية إذ كان على علم بمعظم مجريات الأحداث السياسية، فقد واكب نشأة الدستور اللبناني العام 1926، وكذلك بذوغ قانون الأحوال الشخصية وسواها من التنظيمات الادارية والاجتماعية التي رافقت فترة بطريركيته. وما منشوره الأول بعيد ارتقائه السدة، “محبة الوطن” سوى دليل واضح على تعلقه بوطنه لبنان وتشديده لأبناء طائفته ضرورة التمسّك به… وما قبوله بأول رئيس للبنان الكبير من المذهب الأرثوذكسي سوى دليل واضح على وطنيته وتعاليه عن الفئوية، لأن همه الأول كان لبنان ككل. فكان البطريرك الحويك بطريركاً على صعيد الوطن بكل مذاهبه ومشارب أهله السياسية.
روحانيته:
كان محباً للصلاة والتعبد للقديسة مريم، فقير العيشة، متواضع القلب والروح، شديد الحرص على كنيسته…
وهكذا بعد حياة مليئة بالعطاء الروحي والاجتماعي والوطني، توفي البطريرك الياس الحويك في 24 كانون الأول 1931 ودفن في بكركي ثم نقل جثمانه الى كنيسة دير راهبات العائلة المقدسة في عبرين.

المراجع:
روني خليل، البطريرك يوحنا الحاج 1817- 1898 عصر البناء والتحديث، مطبعة الدكاش، عمشيت 2020.
روني خليل، المنارة، السنة 55- 2018، عدد1، دور البطريرك الماروني الياس الحويك في إعلان دولة لبنان الكبير، 71- 83.
الأب ابراهيم حرفوش، دلالئل العناية الصمدانية، منشورات الرسل، إعادة طبع 2002.الأباتي بطرس فهد، بطاركة الموارنة وأساقفتهم، القرن 20، دار لحد خاطر، 1985.
يوسف خطار غانم، تاريخ أساقفة الموارنة من القرن 16 الى 20، دار بيبليون، إعادة طبع، 2006. ص 10- 24.
الخوري أنطوان الدويهي، رجل العظائم البطريرك الياس الحويك، منشورات المكتبة البولسية، 2000.
الأب جور صغبيني، بطاركة الموارنة ودورهم في قيام لبنان كوطن 685- 2011، ص 154- 157.

خاص موقع جديدنا الاخباري www.jadeedouna.com

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

Privacy & Cookies Policy