
كتب أنطوان العويط
كأنَّ التّاريخَ، في اليومِ الثّاني عشرَ للحربِ بينَ إسرائيلَ وإيرانَ، قرَّرَ أن يَختصرَ العقودَ بعاصفةٍ واحدةٍ، ثم يَهدأَ فجأةً. وكأنّ هذا الشّرقَ المُعلَّقَ على أهدابِ الدَّمِ والدُّخانِ، وجدَ نفسَهُ فجأةً أمامَ مشهدٍ لم يتوقّعْهُ أحدٌ: انكفاءُ الطّائراتِ والصّواريخِ، وظهورُ خطوطِ تماسٍّ دبلوماسيّةٍ جديدةٍ، وعبارةٌ واحدةٌ تتردّدُ في أروقةِ القرارِ: “لقد بدتِ الحربُ، في ظاهرِها، كأنّها تسونامي يُهدّدُ بابتلاعِ المنطقةِ. لكنّها، في حقيقتِها، كانت مشهدًا مُتقنًا من إخراجِ القوّةِ الأميركيّةِ، التي تعرفُ تمامًا متى تبدأُ اللّعبةَ… ومتى تُسدلُ السّتارةُ.”
كانتِ الحربُ، في بدايتِها، تبدو كأكثرَ من مجرَّدِ تصعيدٍ. للمرّةِ الأولى، اصطدمتْ تلّ أبيبَ مباشرةً مع طهرانَ في اشتباكٍ عسكريٍّ مفتوحٍ، لم يَحْتَجْ إلى وُسطاءَ أو وُكلاءَ. هكذا توالتِ الضَّرباتُ، وتطايرتِ الرّسائلُ النّاريّةُ فوقَ العواصمِ، وتحوّلتِ المنطقةُ إلى خشبةِ مسرحٍ من نارٍ. لكن ما لم يَحسبْ له أحدٌ حسابًا، هو أنّ الحربَ، وبسرعةٍ مذهلةٍ، ستتوقّفُ… من دونِ محوِ إسرائيلَ ومن دونِ إسقاطِ النظامِ الإيرانيّ، بل بإنهاءِ قدرةِ إيرانَ النّوويّةِ، وفتحِ البابِ على تسويةٍ واسعةٍ تتناولُ الملفّاتِ العالقةَ، من مصيرِ اليورانيومِ والصواريخِ الباليستيّةِ، إلى ما تبقّى من الأذرعِ بطابعِها العسكريّ، وصولًا بالطبعِ إلى رفعِ العقوباتِ والانفراجِ الاقتصاديّ الواسعِ.
حدث أنّه فيما المنطقةُ تندفعُ إلى الجنونِ، تقدّمَ دونالد ترامب من الظلِّ إلى الواجهةِ كلاعبٍ منفرد. قامَ بضربتِه المحدودةِ لكنِ الحاسمةِ، وانتظرَ قليلًا، وكانَ له ما أرادَ سريعًا.
لم تكنِ الضّربةُ التي وجّهتْها الولاياتُ المتّحدةُ إلى المنشآتِ النوويّةِ الإيرانيّةِ مجرّدَ تطوّرٍ عسكريٍّ. كانت، بالحقيقةِ العاريةِ، لحظةً مفصليّةً في مسارِ نصٍّ محكمِ الإخراجِ، كتبتهُ واشنطن بإتقانٍ، وانتهى بخاتمةٍ مذهلةٍ لا تقلُّ دهشةً عن بدايتهِ.
لقد بدتِ الضّربةُ، في توقيتِها ونطاقِها ودقّتِها، كأنّها رسالةٌ من واشنطن إلى الجميعِ: من موسكو إلى تلّ أبيبَ، ومن بكين إلى طهرانَ، مفادُها أنَّ زمنَ التلكّؤِ قد انتهى. استهدفتِ المقاتلاتُ الأميركيّةُ مفاعلاتِ فوردو وأراك ونطنزَ بضرباتٍ غيرِ تقليديّةٍ، تعطّلَ فيها البرنامجُ النوويُّ الإيرانيُّ دون أن يُمحى كليًّا، وتُركتْ طهرانُ أمامَ معادلةٍ وجوديّةٍ: إمّا المواجهةُ الكبرى، أو القبولُ بشروطِ ترامب.
لكنّ أميركا، التي تعرفُ جيدًا طبيعةَ النّظامِ الإيرانيّ، فتحتْ “النّافذةَ المطلوبةَ والصُّوريّةَ للانتقامِ”، كي لا تبدو طهرانُ منهزمةً علنًا، وكي لا يظهرَ المُرشدُ خامنئي مكسورًا أمام قواعدِه. فجاءَ الردُّ سريعًا، لكنهُ مشبعٌ بالحساباتِ: صواريخُ باليستيّةٌ على قاعدةِ “العديد” الأميركيّةِ في قطر، سَبَقَهُ إِعلامٌ جانبيٌّ مُسبَقٌ للدوحةِ… ولِواشنطن، وَحِرصٌ إيرانيٌّ بالِغٌ على جَعْلِ الضَّربةِ مَحدودةً، وَمِن دونِ مَفاعيلَ، مَعَ تَجَنُّبِ سُقوطِ قَتلى.
في الشّكلِ، بدا الرّدُّ تصعيدًا خطيرًا. الإعلامُ العالميُّ تحدّثَ عن بدءِ الحربِ الكبرى. الأسواقُ اهتزّت، أسعارُ النّفطِ قفزت، والدّولُ الكبرى رفعتْ جهوزيّتَها. لكنْ، في العُمقِ، كان كلُّ شيءٍ مضبوطًا على الإيقاعِ الأميركيّ: لا خروجَ عن النّصِّ، لا دمَ خارجَ الإطارِ، ولا قرارَ يُتَّخذُ دون تنسيقٍ مع غرفةِ عمليّاتِ واشنطن.
خِلالَ ساعـاتٍ، تَراجَعَ مَنسوبُ التَّوتُّرِ، وبَدَأَتِ التَّسريباتُ عن مُفاوَضاتٍ غيرِ مُباشِرَةٍ. ثُمَّ، كَلَمحِ البَصَرِ، أَعلَنَ البَيتُ الأَبيَضُ عن وَقفٍ لإِطلاقِ النّارِ بَينَ إِسرائيلَ وَإِيرانَ، وَإِنْ شابَهُ بَعضُ الانتهاكِ.
في الواقعِ، لم تنتهِ الحربُ لأنّ أحدًا ربحَها. انتهتْ لأنّ واشنطن أرادتْ لها أن تنتهي، في اللحظةِ التي أضعفتْ فيها إيرانَ كفايةً، وانتهى مشروعُها النوويُّ، وأقلقتْ إسرائيلَ بمقدارٍ، وأربكتْ روسيا والصّينَ بما فيه الكفاية، ثم فتحتْ بابَ العودةِ إلى طاولةِ المفاوضاتِ.
لقد بدتِ الحربُ كلُّها وكأنّها فصلٌ واحدٌ من عرضٍ أعظمَ، تتحكّمُ فيه واشنطن بكلّ عناصرِه: المسرحِ، والممثّلين، والإضاءةِ، وحتّى صفّارةِ النهايةِ. ولعلّ ما يُدهِشُ أكثر، أنّ معظمَ القوى الإقليميّةِ تعاملتْ مع هذا الإخراجِ بوعيٍ عميقٍ، وارتضتْ بدورها على الخشبةِ، لأنّ الكلفةَ البديلةَ كانت الفوضى الشّاملةَ.
كلُّ ذلك، لم يكنْ ليحدثَ لو لم يُتقنْ ترامب كيفَ يجعلَ الحربَ أداةً، لا غايةً، واستثمرَ التناقضاتِ كي يُعيدَ فرضَ بلادِه كقوّةٍ وحيدةٍ قادرةٍ على ترسيمِ حدودِ الحروبِ، وتحديدِ ساعةِ انتهائها. وفعليًّا، نجحَ ترامب في اقتناصِ اللحظةِ التي أرادَها أميركيّةً خالصةً، تفرّدَ فيها بالقرارِ، واحتكرَ فيها توقيتَ النهاياتِ.
وإنْ كانت بدتِ الحربُ، في ظاهرِها، كأنّها تسونامي يُهدّدُ بابتلاعِ المنطقةِ، لكنّها، في حقيقتِها، كانت مشهدًا مُتقنًا من إخراجِ قوّةٍ تعرفُ تمامًا متى تبدأُ اللعبةَ… ومتى تُسدلُ السّتارةَ.