
في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، وبينما يرزح لبنان تحت وطأة أزمات اقتصادية، سياسية وسيادية متراكمة، تجد الدولة نفسها أمام اختبار جديد يتقاطع مع الجغرافيا السياسية العالمية. ففي أيار 2025، مُنعت السفينة الروسية «نيكولاي ليونوف» من دخول المياه اللبنانية وعلى متنها شحنة قمح تبلغ نحو 5,000 طن، بعد أن أعلنت السفارة الأوكرانية في بيروت أن هذه الشحنة «مسروقة من الأراضي الأوكرانية المحتلة». هذا التطور لم يكن تفصيلاً تقنياً فحسب، بل فتح الباب على مصراعيه أمام تساؤلات تتعلق بشرعية الاستيراد، الالتزام بالقانون الدولي، وشفافية الإجراءات اللبنانية في مرفأ بيروت، وسط تصاعد التجاذبات بين الغرب وروسيا، وانعكاساتها على دول الجوار.
السفارة الأوكرانية لـ «نداء الوطن»: «الشحنة نُهبت من برديانسك وتم تزوير منشأها»
أكدت السفارة الأوكرانية في بيروت، في بيان رسمي، أن الشحنة تم تحميلها من ميناء برديانسك الأوكراني الواقع تحت الاحتلال الروسي، واعتبرت أن في ذلك «خرقاً فاضحاً للقانون الدولي واستغلالاً غير مشروع لموارد مستخرجة من أراضٍ محتلة». وفي تصريح خاص لـ «نداء الوطن»، أوضحت السفارة أن «السفينة دخلت بين 4 و6 أيار 2025 إلى ميناء تيمريوك الروسي حيث تم إصدار مستندات مزورة تفيد بأن منشأ الحبوب هو روسيا، وأنها حُمّلت من ميناء روسي، وذلك بهدف إخفاء مصدرها الحقيقي».
شحنة مزورة وتحقيق ميداني
في مقابلة خاصة مع «نداء الوطن»، كشفت الصحافية كاترينا ياريسكو، المتحدثة باسم مركز «ميروتفوريتس» الأوكراني، أن السفينة الروسية «Nikolai Leonov» حُمّلت فعلياً في ميناء برديانسك وليس في تيمريوك كما تزعم الوثائق الرسمية. وأكدت أن المركز أجرى تحقيقاً ميدانياً بالتعاون مع منظمة KibOrg، تبيّن من خلاله أن السفينة أطفأت جهاز التتبع (AIS) أثناء وجودها في برديانسك، ما يدل على محاولة لإخفاء مسارها الحقيقي.
كما أظهر تحليل صور الأقمار الصناعية بتاريخ 2 أيار 2025 تطابقاً واضحاً بين السفينة الراسية في برديانسك و«نيكولاي ليونوف». وبحسب التحقيق، أصدرت السلطات الروسية مجموعتين من الوثائق: إحداهما تُظهر برديانسك كميناء تحميل، والثانية تذكر تيمريوك، ما يوضح نية التزوير. واحتفظ المركز بمحضر رسمي لإغلاق عنابر السفينة موقّع بخط يد القبطان فاليري بولديريف، يؤكد فيه أن التحميل تم في برديانسك.
رسائل قانونية وتحذيرات إلى لبنان
تساءلت ياريسكو في حديثها: «إذا كانت روسيا صادقة في زعمها، فلماذا أُصدرت مستندات تشير إلى ميناء أوكراني؟ ولماذا لم تُعرض هذه الحقيقة على السلطات اللبنانية؟». وأضافت أن محاولة «غسيل المنشأ» فشلت بعد موجة تشكيك إعلامية في لبنان، أدت إلى منع السفينة من الرسو وتفريغ حمولتها، وإجبارها على التوجه نحو قبرص، حيث أغلقت جهاز التتبع مجدداً قبل أن تُرصد قرب ميناء الإسكندرية. وتوافق هذه النتائج ما كشفه الصحافي ماكسيم دودتشينكو من منظمة KibOrg، الذي أكّد أن السفينة نقلت الشحنة عبر تزوير ممنهج للوثائق والمواعيد، في أسلوب اعتادت روسيا استخدامه منذ العام 2014 لنقل الحبوب من أراضٍ محتلة.
مسارات مشبوهة تتكرر
أعادت ياريسكو التذكير بحادثة سفينة «Laodicea» التي وصلت إلى مرفأ طرابلس اللبناني في تموز 2022، محمّلة بشحنة من ميناء فيودوسيا في القرم، والتي أثارت احتجاجاً رسمياً من السفارة الأوكرانية آنذاك، قبل أن يؤكد مشروع «SeaKrime» التابع لـ «ميروتفوريتس» أن مصدرها منطقة محتلة. وأضافت: «منذ تلك الحادثة، لم يعد لبنان محطة مفضّلة للمهربين، وتحولت المسارات نحو طرطوس واللاذقية في سوريا، ثم إلى موانئ في مصر، إيران، واليمن».
… والمحاسبة مستمرة
رغم الحرب، أكدت ياريسكو أن أوكرانيا تواصل زراعة وتصدير الحبوب بدعم مباشر من قواتها المسلحة، مع تحرّك قضائي متواصل بحق القباطنة المتورطين في نقل البضائع المنهوبة، مشيرة إلى توقيف قبطان السفينة USKO MFU في تموز 2024، وتوجيه تهم رسمية إليه. كما استشهدت بقرار المنظمة البحرية الدولية رقم 1183 (كانون الأول 2023) الذي دعا الدول الأعضاء إلى الامتناع عن التعامل مع موانئ تحت الاحتلال.
تحذير للمستوردين اللبنانيين
وجهت ياريسكو رسالة تحذيرية إلى المستوردين اللبنانيين، قائلة: «التعامل مع سلع منهوبة يعرّضهم للمساءلة الدولية، ويضرّ بسمعتهم التجارية، وهي ليست أقل أهمية من الأرباح.» وأكدت أن السفينة «نيكولاي ليونوف» لا تزال راسية قبالة ميناء الإسكندرية، في انتظار مصير شحنة لم يُحسم بعد.
يوسف دحدوح» «تخلّيت عن الشحنة قانونياً»
من جهته، أكد يوسف دحدوح، صاحب الشركة اللبنانية المستوردة، في مقابلة مع «نداء الوطن»، أن شحنة القمح تم استيرادها بشكل قانوني من روسيا، موضحاً: «نستورد القمح منذ ثلاث سنوات، وهذه أول مرة نواجه فيها مشكلة مماثلة. دوري ينتهي عند تسليم المستندات للوكيل البحري، والتحويل المالي لا يتم إلا بعد عبور السفينة مضيق البوسفور، ضماناً للسلامة». وأشار إلى أن نتائج الفحوصات الروسية سُلّمت إلى الزبائن اللبنانيين مثل شركة E.S، نافياً أي نية للتزوير أو التلاعب بالمنشأ.
جهة قانونية روسية معارضة: «لدينا الأدلة»
في موازاة ذلك، أفادت جهة قانونية وحقوقية روسية معارضة، فضّلت عدم الكشف عن هويتها، لـ«نداء الوطن» بأنها تملك وثائق تؤكد استيلاء روسيا على كميات ضخمة من القمح الأوكراني، تتجاوز قيمتها نصف مليار دولار، جرى نهبها من مناطق محتلة أبرزها ميليتوبول. وبحسب الجهة، جرى نقل هذه الشحنات من ميناء فيودوسيا، وأُعيدت تعبئتها في عرض البحر لتضليل أنظمة التتبع، قبل أن تُشحَن عبر سفن، بينها «Nikolai Leonov» و«Laodicea»، مستخدمة أوراقاً مزوّرة.
مرفأ بيروت صامت
حاولت «نداء الوطن» التواصل مع «الشركة المساهمة – الشركة التجارية الأولى»، المالكة للسفينة أو المرتبطة بشحنة القمح، لكنها امتنعت عن تقديم أي تعليق رسمي حتى لحظة إعداد هذا التقرير. كما حاولنا التواصل مع مسؤولين في مرفأ بيروت، لكنهم رفضوا بدورهم الإدلاء بأي تصريح.
أي طريق يسلكه لبنان؟
تكشف قضية «نيكولاي ليونوف» ليس فقط عن شبهات قانونية مرتبطة بشحنة واحدة، بل عن مسار خطير يتقاطع فيه تهريب الموارد المنهوبة مع اختراقات ممنهجة للأسواق الدولية عبر أدوات التزوير والتضليل. في ظل تصاعد الضغوط الدولية على روسيا، وعودة ملف أوكرانيا إلى واجهة المواجهة بين موسكو والغرب، يجد لبنان نفسه أمام امتحان لا يمكن تجاهله. فبين التزامه بالاتفاقات الدولية من جهة، وضغوط تجارية وأزمات معيشية داخلية من جهة ثانية، يبقى القرار الحقيقي بيد الدولة اللبنانية، إما أن تختار الشفافية والاحترام الكامل للقانون الدولي، أو تُترك مرافئها ساحة مفتوحة للخرق والمساءلة. وفي ظل تعقيدات المشهد الإقليمي، لا مكان للمواقف الرمادية.
جوزيان الحاج موسى – نداء الوطن