
تقرير موديز الأخير عن لبنان لا يُقدّم مجرد تصنيف جامد عند درجة “C”، بل يفتح نافذة على واقع أعمق بكثير، البلد لم يعد يواجه أزمة مالية فقط، بل أزمة وجودية تمس كل جوانب حياته السياسية والاجتماعية والبيئية. خلف كل استنتاج يختبئ الكثير من الفوضى والتآكل والشلل، لدرجة أن المشهد لم يعد يدور حول مجرد خفض العجز أو إعادة هيكلة الدين، بل يدور حول الدولة نفسها.
كي نفهم مدى حراجة الوضع، نحتاج أولًا أن نتوقف عند مفهوم الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، أو ما يُعرف بـ ESG. هذه ليست مجرد عناوين، بل إطار تحليلي حقيقي تقيس من خلاله وكالات التصنيف، مثل موديز، قدرة الدول على إدارة مواردها، حماية بيئتها، رعاية مجتمعها، وضمان عمل مؤسساتها بكفاءة. عندما تنهار هذه الركائز، لا يعود الاقتصاد وحده في خطر، بل ينهار معه كل أساس يُفترض أنه يربط الناس بمواطنيتهم.
موديز تستخدم أداة تقنية اسمها مؤشر تأثير الائتمان (CIS)، وهو مقياس رقمي يوضح إلى أي مدى تُثقل عوامل ESG على التصنيف الائتماني. أن يحصل لبنان على أعلى درجة سلبية، CIS-5، يعني أن التصنيف المتدني ليس فقط بسبب الديون والأرقام، بل لأن البلاد واقعة تحت ضغط هائل من عوامل غير مالية: بيئة منهكة، مجتمع منقسم ومضطرب، ومؤسسات مشلولة.
عندما ندخل في تفاصيل التقرير، نكتشف بسرعة أن الأزمة اللبنانية تتجاوز لغة الارقام والنسب المئوية. نحن أمام دولة تعاني من فساد مزمن، شلل حكومي، غياب الشفافية، وانعدام ثقة تام بين الناس والسلطة. وهذا بحد ذاته يُقوّض أي محاولة إصلاحية، مهما كانت حسنة النية.
اجتماعيًا، بات لبنان مجتمعًا منهكًا: الفقر يبتلع الطبقة الوسطى، البطالة تدفع الشباب إلى الهجرة، والمظاهرات تملأ الساحات ثم تخبو بلا نتيجة. الأزمة هنا ليست فقط مالية، بل أزمة فقدان أمل. وكلما زادت هشاشة المجتمع، تراجعت قدرة الدولة على الصمود في وجه أي صدمة جديدة.
بيئيًا، لا تبدو الصورة أفضل. تغيّر المناخ، إدارة المياه، أزمة الطاقة، كلها ملفات يفتقر لبنان إلى القدرة المؤسسية لمواجهتها. غياب الخطط، وضعف البنية التحتية، وعدم جاهزية الطوارئ يجعل أي كارثة طبيعية محتملة ضربة قاصمة إضافية.
أما من الناحية المالية، فالحكومة شبه عاجزة: عجز بالموازنة، دين عام يلتهم الناتج المحلي الإجمالي، وانهيار القدرة على الوصول إلى الأسواق. ما تبقى من الدولة يكاد يكون مشلولًا، لا يستطيع لا الإنفاق على الإصلاحات ولا حماية الفئات الأضعف.
عندما تُبقي موديز تصنيف لبنان عند “C”، فهي تقول لنا شيئًا أعمق مما يبدو: إن لبنان وصل إلى حافة القاع، وإن أي أمل بالصعود لا يعتمد فقط على ضبط الأرقام أو توقيع اتفاقات دولية، بل على تغيير عميق في بنية الحوكمة، وإعادة بناء المؤسسات، واستعادة الثقة.
في النهاية، ما تكشفه معايير ESG ومؤشر CIS هو أن أزمة لبنان ليست أزمة مال، بل أزمة دولة ضائعة ربما تحتاج إلى فك وتركيب من الجذور.
د. بيار الخوري