The News Jadidouna

اللامركزيّة الإداريّة “الموسّعة” ليست حلاً سياسياً

كتبت د. غريس الياس في نداء الوطن
«العالم القديم يحتضر والجديد بطيء في الظهور وفي هذا التحول تظهر الوحوش»، هذه العبارة للمفكر الإيطالي انطونيو غرامشي، وكم تنطبق على واقعنا في لبنان.

نص اتفاق الطائف على اعتماد اللامركزية الإدارية «الموسعة» على مستوى الوحدات الإدارية الصُغرى (القضاء وما دون) عن طريق انتخاب مـجلس لكل قضاء يرأسه القائمقام، تأميناً للمشاركة الـمحلية. أتى هذا الطرح في اتفاق الطائف كحل وسط بين مزاج شعبي مؤيد للفدرالية وآخر رافض لها، إلا ان هذا الطرح لا يشكل حلاً للمشكلة السياسيّة بل هو اطار تنظيمي، وتغطية للأزمة اللبنانيّة الحقيقية.

في العام 2014 اقر مشروع قانون اللامركزية الإدارية «الموسعة» الاخير، وكان رئيس اللجنة الوزير السابق زياد بارود، ومنذ ذلك الحين بقيت اللامركزيّة الإداريّة «الموسعة» تُدرج كمشروع في البيان الوزاري من دون إقرارها في مجلس النواب. يركّز أصحاب المشروع على أن اللامركزيّة الإداريّة هي نظام منفصل عن الفدراليّة، غير ان البعض يمزج بين اللامركزية الإدارية والفدرالية أو كما تسمى من قبل البعض اللامركزية السياسيّة. الا انه لا مجال للمقارنة بين المصطلحين فالفدرالية نظام سياسي للدولة تتحد بموجبه مجموعة وحدات سياسيّة مستقلة في دولة فدرالية واحدة، أما اللامركزية الإدارية فهي تنظيم إداري لتحسين الخدمات العامة وتعزيز الإنماء في المناطق، فهي تلعب دوراً أساسياً في عمليّة التنميّة.

غير ان اللامركزية الإدارية «الموسعة» ليست مُصطلحاً علمياً بل هي مُصطلح سياسي، وهي تعني بالموسعة أي على صعيد الصلاحيات، وتقوم على نقل صلاحيات إدارية من الدولة المركزية إلى وحدات محلية على صعيد منطقة محددة منتخبة مباشرة من الشعب تتمتع بالاستقلالين الإداري والمالي، ويكون لهذه الوحدة صلاحيات إدارية ومالية واسعة لتستطيع العمل، ونشير الى ان اللامركزية الماليّة هي شرط أساسي للامركزية الإدارية.

حتى الآن تقوم اللامركزيّة الإدارية في لبنان على مستوى البلدية واتـحاد البلديات فقط. وقد صدرت قوانين عديدة نظمت شؤون البلديات، وآخرها الـمرسوم الاشتراعي رقم 118 تاريخ 30/6/1977 وقد أدخلت عليه عدة تعديلات. ومُنحت البلديات، بموجب هـذه التشريعات، الشخصية الـمعنوية والاستقلال الـمالي والإداري، لكي تتمكن من القيام بأعباء الإدارة الـمحلية. وتتألف الإدارة الـمحلية في لبنان من سلطتين: سلطة تقريرية يتولاها مـجلس منتخب هو الـمجلس البلدي، وسلطة تنفيذية يتولاها رئيس البلدية يعاونه جـهاز من الـموظفين الإداريين والفنيين.

إلا ان اللامركزيّة الإداريّة في لبنان لم تنجح لعدة اسباب كان ابرزها التعطيل من قبل الدولة المركزية، وغياب الرؤية الإستراتيجيّة للعمل البلدي في لبنان، نشير هنا الى وجود 1050 بلدية في لبنان تعمل ضمن نطاق ضيق حيث ان مواردها قليلة جداً. ويرى البروفسور طوني عطاالله في هذا السياق أنّ «عدم تعميم ثقافة العمل البلدي يشكل أكبر عائق أمام التنمية المحلية وخطورة قصوى، اذ يخشى التحول من مركزية المركز الى لامركزية محليّة اقطاعيّة أكثر طغياناً من مركزية المركز». ويشير إلى أن عوائق العمل البلدي هي على النحو الآتي: «ذهنية الاصطفاف والاستتباع، العلاقات القائمة على نفوذ وليس على قواعد حقوقية، الفردانية والأنانية على حساب الشأن العام والشؤون الحياتية اليومية المشتركة، التراجع في مناهج التربية المدنية، مفهوما الوصاية والرقابة المسبقة التي تشمل للعمل البلدي ستة مستويات هي: رقابة المجلس البلدي، المراقب المالي، المحافظ، وزير الداخلية، ديوان المحاسبة، مجلس شورى الدولة…».

وجاء تأجيل الانتخابات البلدية مؤخراً كدليل على فشل اللامركزية الإداريّة في ظل هكذا نظام وسلطة سياسيّة متحكمة في البلاد. فقد صدّق المجلس النيابي مشروع القانون الوارد بالمرسوم رقم 8953 والرامي إلى تمديد ولاية المجالس البلدية والاختيارية حتى 31/5/2023، تبرر الأسباب الموجبة هذا التمديد بتزامن مواعيد انتهاء ولاية هذه المجالس مع موعد إجراء الانتخابات النيابية واستحالة إجراء الانتخابات البلدية والنيابيّة معاً. ونلفت النظر الى ان التمديد للمجالس البلدية لم يجابه بأي اعتراض يذكر، ما يؤشر الى الضعف في ثقافة العمل التنموي البلدي، أما التمديد للمجالس النيابية فكان يجابه باعتراض شديد من قبل المجتمع اللبناني بشكلٍ عام، والإصرار على اجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها الدستورية. وفي حين قررت حكومة «معاً للانقاذ» في سنة 2022 ان الانتخابات النيابية أهم من الانتخابات البلدية، كان مضمون قرار المجلس الدستوري رقم 2 سنة 1997: «حق الاقتراع، وبالتالي، حق المواطن في أن يكون ناخباً ومنتخباً، هو من الحقوق الدستورية، الذي يجسد المبدأ الديمقراطي الذي يرتكز عليه النظام الدستوري في لبنان وله القيمة نفسها في حال ممارسته على مستوى الانتخابات النيابية أم على مستوى الانتخابات المحلية». فكيف للامركزية الإدارية «الموسعة» ان تنجح في ظل هذا الوضع القائم؟.

إذاً، هناك أزمة نظام في لبنان، كما اننا في نظام اداري مأزوم منذ سنة 1959 من دون تعديلات تذكر، فما الذي يمنع من عرقلة اللامركزية الادراية «الموسعة» وتحويلها الى لامركزية فساد، بغياب قضاء شفاف ونزيه، فنحن بحاجة لرقابة قضائية فعالة، رقابة لاحقة وليس مُسبقة، وبإطار تشريعي وتنظيمي يضمن النزاهة والشفافية والحوكمة الرشيدة ودولة القانون والمؤسسات، ووجود أجهزة رقابية مستقلة، أجهزة متخصصة مثل ديوان المحاسبة، مجلس شورى الدولة حيث ان دورها معطل في لبنان. المشكلة الأساسيّة في لبنان هي بضعف الدولة المركزيّة، حيث انه لا يمكن استفادة المواطن من اللامركزية الإدارية «الموسعة» بغياب الدولة المركزية. فإذاً نستنتج ان الإصلاح الجذري والحقيقي يجب أن يبدأ على الصعيد البنيوي للدولة بوظائفها الأساسيّة وليس على صعيد متفرعاتها كما هي الحال في اللامركزية الإدارية «الموسعة».

ان انتقال لبنان الى منظومة إدارية جديدة، اللامركزية الإدارية «الموسعة» لها مزايا قيّمة ومنها ما يتصّل بالديمقراطية وتعزيز مشاركة المواطنين في التصرف بشؤونهم المحلية والتنموية، الا ان هذا الاصلاح يجابه في لبنان تحديات عديدة كما رأينا. إن اللامركزية الإدارية «الموسعة» لا تشكل الحل لعدم الاستقرار في النظام السياسي في لبنان، حيث ان اللامركزية الإدارية ينحصر تطبيقها بالشق الإداري الإنمائي فقط. فاللامركزية الإدارية «الموسعة» لا تنظم التعدّدية في المجتمع المركب، ولا تحل مشكلة السلاح خارج اطار الدولة اللبنانيّة، ولا الأزمة المالية والاقتصادية، ولا الصراعات الإقليمية في ظل وجود لبنان كدولة حاجز في محيط ملتهب وعدم تطبيق حياد الدولة، ولا التوافق على السياسة الخارجية والدفاعية. فقد فقدت الدولة اللبنانيّة بعضاً من الأوصاف الأساسيّة الملازمة للدّولة والمسمّاة مَلَكيّة droits régaliens ، وأبرزها: احتكار القوّة المنظّمة.

وما طرح اللامركزية الإدارية «الموسعة» من قبل أكثرية المرشحين للانتخابات النيابيّة واعتبارها المشروع المخلص لأزماتنا السياسيّة في لبنان سوى أمر ساذج، هو فقط محاولة لتأجيل الأزمة، ولا يمكن لأي حل ان يعطي نتيجة إلا إذا كان ينطلق من المشكلة الأساسيّة. فالإنطلاقة تبدأ من الأساس من المصدر حلّ الازمة السياسيّة أولاً، ما يؤدي الى الاستقرار السياسي، الامر الذي يؤدي الى تطبيق اللامركزية الإدارية «الموسعة» بشكل فعّال وجيد، والا سينتهي الامر بتكرار تجربة البلديات. كما ومن المنطق إصلاح تجربة البلديات واتحاد البلديات كخطوة أولى في تصحيح مسار اللامركزيّة الإداريّة في لبنان ومن ثم نتحدث عن اللامركزية الإدارية «الموسعة» ان كان لا بدّ منها.

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

Privacy & Cookies Policy