The News Jadidouna

الخوري يوسف أبي صعب ..ذاكرة تاريخ الكفور

كتب دكتور اندريه نصار في منصة جديدُنا

في ربوع بلدة الكفور الوادعة، الرابضة في فتوح كسروان، أبصر الخوري يوسف أبي صعب النور في العام 1915، يوم كان العالم تحت وطأة حرب عالمية، ولبنان يرزح تحت الحكم العثماني. تابع دروسه في مدرسة القرية، فتعلم مبادئ العربية والسريانية والفرنسية، لكنه اضطر إلى التوقف عن متابعة دروسه بسبب مرض والدته، وضيق ذات يد والده، فاتخذ صنعة الحلاقة وسيلة لكسب رزقه ومساعدة أسرته. في العام 1937، دخل مدرسة عين ورقة الإكليريكية، وبعد سنتين انتقل إلى مدرسة الرسل في جونيه، ودرس فيها اللاهوت. وفي العام 1942 دخل مدرسة مار عبدا هرهريا لمتابعة دروسه اللاهوتية. ثم ترقى إلى درجة الكهنوت في العام 1946، ثم بدأ رسالته الرعائية، فخدم عدداً من الرعايا في كسروان والمتن وبعبدا حتى العام 1983، حين استقال من الخدمة بسبب سوء وضعه الصحي، إلى أن أطفأ عينيه في العام 1985، عن عمر قارب السبعين سنة أمضاه في خدمة الرعايا والكتابة، تاركاً تراثاً تأريخياً جليلاً كان أبرز ما فيه كتابه “تاريخ الكفور كسروان واسرها”، موضوع مقالتنا. وقد أشرف على نشره وتنقيحه نجله المحامي شارل أبي صعب، بعدما كان والده قد حوّله إلى الطبع، فصدر بعد سنة على وفاة الخوري يوسف.

حين يتبادر إلى الأذهان ذكر بلدة الكفور، يترافق معه ذكر المؤرخ يوسف أبي صعب، الذي خلد اسمه في مؤلفه الكبير “تاريخ الكفور كسروان وأسرها”. انطلاقاً من روح البحث التي تجذرت فيه منذ صغره، وتجلت بجمع الوثائق والمخطوطات ونوادر المطبوعات، وشغفه بالتاريخ الذي يقول عنه في كلمة له يستهل بها كتابه، إنه أسمى العلوم وأجلها، وله المقام الأول بين العلوم الكلامية والأدبية، أراد الخوري أبي صعب أن يكتب تاريخ مسقط رأسه، مستنداً إلى كل ما يمكن أن يثبت أقواله وآراءه. فهو لم يوفّر أي مصدر أو مرجِع، أي وثيقة أو مخطوطة لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بتاريخ الكفور، فجال وصال في أرجاء لبنان بحثاً عما يفيده ولو بجملة تروي غليله وتوصله إلى الحقيقة.

الكتاب هو ثمرة جهد كبير، ثبّت فيه الكفور بلدة لها تاريخها وماضيها اللذان تفاخر بهما. وهو، كما يدل عنوانه، أراد من خلاله المؤلف أن يكتب تاريخاً شاملاً لبلدته، مع التركيز على دراسة أسرها التي صنعت ماضيها وحاضرها. والخوض في هذا النوع من الدراسات يتطلب سعة اطلاع، وإحاطة كافية بمختلف الموضوعات المنوي الحديث عنها. ولا تتوافر هذه المقومات إلا بعد عمل دؤوب وبحث متواصل عن الأصول، وهذا ما دأب عليه الخوري أبي صعب حين وضع نصب عينيه كتابة تاريخ الكفور، إلى حد أنه غدا ذاكرتها، وبات مرجعاً مقصوداً لأخذ فوائد تاريخية منه عن قرى لبنان عموماً والكفور وأسرها على وجه الخصوص. وقد اعتمد عليه كل من أراد الحديث عن الكفور. وكم آلمه إغفال أصحاب تلك الكتابات ذكره كمرجع، لا بل إن أحد التحقيقات المصورة عن الكفور، الصادر في العام 1983، نُقل حرفياً عن مقالة الخوري أبي صعب حول الفتوح والكفور في مجلة “الفصول”، ولم يشر صاحبا التحقيق إلى موضوع النقل بكلمة.

قسّم أبي صعب كتابه ثلاثة أقسام، تضمّن القسم الأول نُبذة تاريخية عن الكفور وآثارها وحاصلاتها ومياهها ومناظرها وكهنتها، وأصل أسرها ومنشأها؛ وخصّص القسم الثاني لعائلة أبي صعب؛ ودرس في القسم الثالث سِيَر الذين اشتهروا ونبغوا من آل أبي صعب في الكفور.
يظهر تعلق أبي صعب ببلدته الكفور جلياً منذ الصفحات الأولى لكتابه، فهو في القسم الأول لا يوفر أي خبر أو حدث له علاقة بكسروان إلا ويذكره، محاولاً ربط ذلك ببلدته التي يشير إلى أقدمية الوجود السكاني فيها ومعاصرتها الدول الأولى، ومن ثم أهمية الحضور الماروني في الكفور وفي كسروان عموماً، إلى درجة أنه خصص مقالة مطولة نشرها في العام 1979 في مجلة “الرعيّة”، تحدث فيها عن الخراب الذي خلفه المماليك في كسروان بعد حملتهم الثالثة في العام 1305 وأقوال المؤرخين فيه، وعن الطوائف التي كانت تسكنه، فأثبت بالحجج، كما يقول، أن سكان كسروان كانوا موارنة ودروزاً فقط! طبعاً، إن محاولة الخوري أبي صعب إبراز خصوصية كسروان المارونية نابعة من تعلقه الشديد بمارونيته. ولا يمكن هنا نعته بالتعصب، فهو لا يغفل دور بقية الطوائف في تاريخ هذا الوطن، وارتبط بمروحة علاقات واسعة مع مختلف الأطياف، وجمعته علاقات صداقة وطيدة بشخصيات من كل الأديان. ونعتقد أن ما ذكره بشأن سكان كسروان، خلال مرحلة وضع كتابه، كان لبنان فيها يمرّ بحروب عبثية داخليّة، وظهرت آنذاك كتابات حاول فيها أصحابها، إنطلاقاً من تعصب طائفي على العموم، أن ينفوا صفة الوجود المسيحي، وتحديداً الماروني، في كسروان. فأراد ربما بذلك أن يردّ على ما ادّعته أو زعمته تلك الدراسات التي تفتقد الموضوعية والدقة في معظم ما ذهبت إليه. في كل الأحوال، لا يزال الجدل قائماً حتّى اليوم حول هويّة سكان كسروان في القرون الوسطى، وتحديداً في العصر المملوكي (1260-1516)، ففي حين نفى بعضها الوجود الماروني في كسروان قبل القرن الخامس عشر، أكد بعضها الآخر استهداف المماليك الموارنة في حملتهم الثالثة على كسروان. في نهاية المطاف، كانت تلك الحملة شرسة وعنيفة، شتتت سكان كسروان بين الشمال والجنوب والبقاع وربما خارج لبنان، وغيّرت خريطة التوزيع السكاني آنذاك.

لقد أحاط الخوري أبي صعب في القسم الأول من كتابه بالإطار الجغرافي والتاريخي للكفور، وهو وإن كان مدخلاً للتعريف بالبلدة جغرافياً من حيث الموقع، والحدود، والمِساحة، والأقسام، والمناخ، والغابات، والينابيع، والحاصلات، فإنّ أهميته تكمن في تتبّع الخوري أبي صعب كل ما يرتبط بهذا المجال، كي يأتي كلامه دقيقاً وموثّقاً، يضاف إلى معرفته الشخصية بكل “شاردة وواردة” عن الكفور التي نشأ وتربّى في كنفها، وجال فيها، واكتشف خباياها وأسرارها في طفولته وفي سنّ المراهقة. أضف إلى ذلك أهمية الإطار التاريخي في القسم الأول من الكتاب الذي أظهر فيه الخوري أبي صعب مدى حرصه الشديد على ألا يفوته شيء مما كتب وقيل في الكفور، فجاء ما ذكره غنياًّ ووافياً حتى تاريخ وضع كتابه، فلو أطال الزمن عمره لربما كان أضاف جديداً، بما عُرف عنه بحثه الدؤوب عن كل ما يمتّ بصلة إلى تاريخ الكفور.
إن هذا النوع من الكتابة الذي يسعى إلى الإضاءة على تاريخ القرى الاجتماعي والاقتصادي والتربوي والديني، يأتي كمحاولة لإظهار أهمية دراسة تاريخ الريف كأرض ومجتمع. فتاريخ الوطن تصنعه الجماعات المنتشرة على أرجائه كافة، وتاريخ الوطن يُدرَس انطلاقاً من دراسة كل مكوّناته الاجتماعية، ودورها، وقدراتها، وتفاعلاتها في ما بينها ومع المحيط القريب والبعيد. ولا تكتمل دراسة التاريخ بالتركيز على فئة وإهمال أخرى، وإن كانت المجتمعات الريفية والفقيرة مهمّشة في ثنايا المصادر منذ قرون بعيدة.

وبما أن البلدات والقرى أساسها مجتمعات صغيرة مركّبة من عائلات صنعت تاريخها وأسهمت بدورها في صناعة تاريخ الوطن، رأى الخوري أبي صعب أن يخصص القسم الثاني من كتابه ليدرس تاريخ عائلته. طبعاً، إنّ معرفة تاريخ العائلة، وجذورها، وأصولها، وتفرّعاتها، وأماكن انتشارها، وأبرز رجالاتها، تحتلّ مكانة مهمة في الفكر المشرقي. ويندرج ما أقدم عليه الخوري أبي صعب في خانة الدراسات التي عنيت بالتركيب العائلي، وسعت لدراسته عبر نماذج من القرن التاسع عشر والقرن العشرين. فيما حاول المؤرّخ الدرزي صالح بن يحيى الذي توفي في القرن الخامس عشر، دراسة تاريخ عائلته البحترية ـ التنوخية في كتابه تاريخ بيروت.

إنّ تتبّع تاريخ العائلة دونه عقبات كثيرة، وتأتي في أولوية المصادر، معظم الأحيان، الروايات الشفهية المتناقلة جيلاً بعد جيل، والتي تتشابه في مضامينها معظم الأحيان، من حيث أصل العائلة وأسباب انتقالها من منطقة إلى أخرى. وقد درس أبي صعب أصل الأسرة الصعبية ومنشأها وحضورَها إلى فغال وتفرّقَها في كثير من القرى اللبنانية وأنسباءها وفروعَها. وقد انطلق في دراسته من تاريخ الموارنة في لبنان، وهو ما يظهر مرّة جديدة تعلقه بمارونيته، وإثبات دور الموارنة في تاريخ لبنان، ودور بكركي في المحافظة على لبنان عبر التاريخ، ليؤكد أهمية حضور الموارنة الفاعل والأساس في نشأة الكيان اللبناني. طبعاً، إن الكثير مما ذهب إليه الخوري أبي صعب في هذا القسم من الكتاب، على أهمّيته، يحتاج إلى مناقشة هادئة لوضع بعض النقاط على الحروف، لكنّ المجال لا يتسع لها في هذه العجالة. وهو يبدو في كل ما أورده حريصاً على إثبات المنشأ الماروني لعائلة أبي صعب، وعلاقتها مع المحيط الذي وجدت فيه، قبل انتقالها إلى فغال، ومن ثم هجرتهم من فغال، وفروعهم، وتلقبهم بالفغالي، ومشاهير عائلة الفغالي، وأبرز مهاجريها إلى أميركا وصولاً إلى الجامعة الفغالية. بعد ذلك ركز أبي صعب بحثه على حضور صعب إلى كسروان، وتفرّق أولاده، ونزوح آل أبي صعب إلى الكفور، وما استتبع ذلك من حوادث أورد تفاصيلها في كتابه.
يتضح، بعد قراءة القسم الثاني من الكتاب، أنّ الخطوات التي اتبعها الخوري أبي صعب في كتابته عن تاريخ عائلته تنمّ عن محاولة حثيثة تكشف عن مدى التقميش الرصين لاحتواء أكبر قدر من المعطيات الكافية للتدليل على مختلف الحقب التاريخية التي قطعتها العائلة حتى تاريخ استقرارها ببلدة الكفور.

يبقى القسم الثالث والأخير من الكتاب، وقد خصصه الخوري أبي صعب لترجمة حياة من اشتهر من عائلة أبي صعب في الكفور. ويحتل هذا القسم جزءاً مهماً من الكتاب، تناول فيه أهم الشخصيات الدينيّة، والفكريّة، والأدبيّة، وتلك التي تعاطت الشأن العام. ولم يبخس أيّاً منها حقها، وبيّن أهم مآثرها وأعمالها، ودور كل منها في المجال الذي خاضته، والتكريمات والاحتفالات الخاصة ببعضها، إلى غير ذلك ممّا يشير إلى المكانة التي احتلتها كل شخصية. ويشكل هذا القسم مَعيناً مهماً للدراسات التي تعنى بالتاريخ الاجتماعي والديني والتربوي، ومعرفة المكانة التي احتلتها الكفور مقارنة بالقرى والبلدات المجاورة لها، أو على صعيد القضاء ككلّ.

إذا كان التاريخ يكتب بالوثائق، فإنّ الخوري أبي صعب انتهج هذا المسار، وراعاه في كتابه “تاريخ الكفور” الذي جاء ثمرة عدد كبير من الوثائق بمختلف أنواعها، كان أميناً في استخدامها، وشديد الحرص على الاستفادة من كامل مضامينها. قيل “إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها”، وبما أن الخوري يوسف أبي صعب هو معجم الوثائق والنصوص، كما قال عنه الأب بولس صفير، فلا يمكن أن يضيع عنده التاريخ.
يبقى أنّ كتاب “تاريخ الكفور” قابل للتطوير والإضافة عليه، على ضوء اكتشاف وثائق ومصادر جديدة، ويمكن تحقيق هذا الأمر بهمّة نجله المحامي شارل أبي صعب، الذي يتابع مسيرة والده. كذلك إنّ آثار الخوري أبي صعب، سواء المكتوبة أو المخطوطة، تستحقّ إعداد دراسة جامعيّة عنه، تقارن بينه وبين أعمال أخرى لمؤرخين عاصروه، تظهر مدى النتائج التي توصل إليها في كتاباته، ويمكن الاستفادة منها لتصحيح بعض الشوائب في تاريخ لبنان.

كلام صور
1- الخوري يوسف أبي صعب
2- غلاف كتاب “تاريخ الكفور”
منظر عام لبلدة الكفور

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

Privacy & Cookies Policy