The News Jadidouna

كيف نطلق ديناميّة وقف الإنهيار وإعادة البناء؟

كتب د. جورج صدقه في الجمهورية

منذ أكثر من سنتين وانحدار لبنان يستمرّ، الى جهنّم، وما بعد بعد جهنّم، من دون أن نتبيّن القعر الذي سنصل اليه ولا الى متى سيستمرّ الانحدار المخيف. لا نقول هذا من باب تيئيس اللبنانيين، بل من باب استنهاض الشعب اللبناني الذي يبدو خنوعا، مستسلما، يستمع كل يوم الى خطابات السياسيين أنفسهم الذين قادوه الى الذلّ وما زالوا مستمرين في ذلك، ومن باب الدعوة الى رؤية حجم الدمار الذي طال الوطن.

انهارت الدولة وتفككت مؤسساتها من دون أن يرفّ للمسؤولين فيها جفن. وها هم ينظّمون حملاتهم الانتخابية ليبقوا في كراسيهم أو ليورثوا أبناءهم بدلا من أن يعترفوا بفشلهم فينسحبون فيتيحون لغيرهم فرصة الاصلاح. وكأنهم مطمئنون الى أن جرائمهم ستمرّ من دون عقاب ولا محاسبة. وقد يتحقّق لهم ذلك اذ ان جميعهم يتبرّأون من الوضع الذي أوصلوا اليه الوطن ويتّهمون غيرهم. فإذا بهم لم يعودوا سلطة حاكمة، بل وكأنهم في المعارضة.

بكلّ وقاحة هم متربّعون على الكراسي ويصرّون على البقاء فيها رغم المشهد العام المذري للدولة والشعب اذ بلغ حالا غير مسبوقة على صعيد العالم.
لا يعنيهم مشهد عجوز يبكي أمام المصرف غير قادر على الاستحصال على مبلغ من ماله ليعيش بكرامته أو ليشتري دواءه.
لا تعنيهم رؤية ربّ عائلة غير قادر على دفع قسط اولاده في المدرسة أو الجامعة على رغم انه ادّخر ماله طوال عشرين سنة كي يتمكّن من تأمين مستقبلهم.
لا تعنيهم حال شاب وصبيّة فقدا حلم بناء عائلة.
لا تعنيهم المآسي أمام المستشفيات ودموع الاطفال الجائعين المحرومين من الدفء والطعام. ولا تعنيهم قوافل الهجرة هرباً من جحيمهم.

هم مستمرّون بعبثهم وكأنّ شيئا لم يحدث. بماذا يهتمون؟ ماذا يفعلون؟ لماذا لا يرحلون؟ لماذا لا يتركون السلطة لأشخاص أكفّاء مستعدين أن يبنوا وطنا ويعيدوا بعض كرامة للبنانيين؟

مشهد الدولة سوريالي: قضاة يتصارعون على صلاحيّات وعلى قرارات خارج القوانين المعمول بها. ادارات الدولة مقفلة لا ورق فيها ولا موظّفين. أبنية مدرسية فارغة لا أساتذة فيها ولا تلاميذ. أحياء في بيروت مدمّرة بالكامل وعائلات فقدت كل شيء. مرفأ بيروت ركام ينتظر من يعيد اليه بعض الحياة.

مصارف مستمرّة منذ أكثر من سنتين في قرصنة أموال الناس وتعبهم ولا من يسأل ولا من يسعى الى قانون الكابيتال كونترول الموعود. نفايات تعود الى الشوارع بين اسبوع وآخر وهذا الأمر منذ سنوات وسنوات، ّووزراء البيئة يتتالون ولا أحد منهم يسعى الى حلّ جذري. لبنان الغني بالمياه، نراها تتدفّق على الطرق ومقطوعة في المنازل. مواطنون يشحذون بعض قطرات المازوت لحماية أطفالهم من الصقيع. سلف الكهرباء مستمرّة بملايين الدولارات وذلك من دون كهرباء. وكأنّ لا أحد في هذه الدولة فَطن الى حلّ للكهرباء رغم عروض الدول والشركات والقطاع الخاص التي تؤكد امكانية ايجاد الحل في غضون أشهر حالما تتوافر الارادة السياسية. ضمان اجتماعي لا أحد يعرف حجم ماليته وأين هي الودائع. صناديق تعاضد منهارة. جامعات تتاجر بالشهادات. هجرة الشباب والطاقات المنتجة تستمرّ… والتعداد يطول.

مع تلمّس حجم الانهيار الحاصل يُطرح السؤال عمّن يستطيع وقف الانهيار واعادة بناء الدولة، بالنظر الى حجم الجهد المطلوب، في وقت تغيب فيه أيّ رؤية وينتفي وجود رجال دولة ليتولّوا ذلك.

كثيرون من اللبنانيين فقدوا الامل بخروج وطنهم من محنته لا سيما مع تفسّخ النسيج الاجتماعي، والانقسامات العميقة الحاصلة بين مكوّنات الوطن. وليس مستغربا أن تكون غالبيّة اللبنانيين تعبّر عن أمنيتها بالهجرة.

ما يدعو خصوصا الى اليأس أمران: الاول غياب المشروع الوطني الكبير كمثل الذي حملته قامات وطنية مثل كمال جنبلاط وبشير الجميل او ذاك الذي حمله رفيق الحريري. والثاني انتفاء وجود رجال دولة أو قادة بحجم المرحلة يمتلكون حسّ ادارة الشأن العام وهمّ المصلحة العامة.

في فترات حرجة من تاريخ لبنان ظهر قادة بحجم رجال دولة استطاعوا تحريك الشعب نحو قرارات وطنيّة جامعة. من هؤلاء رياض الصلح والبطرك المعوشي وفؤاد شهاب، وضعوا أسساً لقيام الدولة وقدّموا المصلحة العامة على أهوائهم وميولهم ومصالحهم الذاتية. هم قادوا شعبهم الى حيث كانت مصلحته. لم يجرّوه الى معارك وحروب. لم يبنوا شعبية على حساب عصبيات ونزاعات كما هي الحال اليوم. لم يلتحقوا بمحاور خارجية. أثبتوا زعامتهم لأنهم سعوا الى مصلحة شعبهم وأوجدوا قواسم مشتركة التقى حولها الشعب اللبناني.

من يمكنه اليوم القيام بهذا الدور؟

طرحَ البطريرك الماروني في عظة مار مارون قبل أيام ما يشبه خمس أمنيات: اجراء الانتخابات، التحقيق بانفجار المرفأ، وضع خطة اصلاح مالية، تطبيق اتفاق الطائف وتبنّي مبدأ الحياد. غير أن السؤال: من سينفذ هذه الامنيات؟ كيف يمكن إلزام المنظومة الحاكمة بها في وقت تسعى هي الى منعها؟

الواقع السياسي أن لبنان ينازع وليس هناك أي ديناميّة على الأرض تُنبئ بتغيير الواقع. لم ينجح الحراك الشعبي بإطلاق مثل هذه الديناميّة بسبب غياب قيادات له. كما لم تنجح القيادات السياسية والروحية المعارضة في إطلاق هذه الديناميّة. ديناميّة التيّار العوني أوصَلت لبنان الى جهنّم، وديناميّة «حزب الله» أوصلت لبنان الى العزلة. فمن يطلق ديناميّة وقف الانهيار وإعادة بناء الدولة؟
هل ستتمكن الانتخابات المقبلة من إطلاق مثل هذه الديناميّة؟ ربما، اذا حملت تغييرا على صعيد القيادات من خلال محاسبة المسؤولين عن الانهيار وإسقاطهم، وإيصال نخب جديدة تحمل همّ الناس والوطن. غير أن المنظومة الممسكة بالسلطة لن تتخلّى بسهولة عن مواقعها وهي ستخوض الانتخابات بشراسة للحفاظ على مواقعها ومكتسباتها.

كلّ الرهان ان تنجح الانتخابات في إطلاق ديناميّة تغيير وابراز نخب جديدة تحمل همّ المصلحة العامة لتتولى إدارة الشأن العام بنزاهة وكفاءة.

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

Privacy & Cookies Policy