The News Jadidouna

“لبناني طالع من كتاب التاريخ” بقلم د. روني خليل

عبارة يسمعها بشكل عام معظم المؤرخين تهتف على ألسن كثيرين انتقادا لهذا الاختصاص أو انتقاصا منه احيانا. ولا يقف المنتقدون عند هذا الحد فحسب، بل يتعدونه الى ابعد من ذلك، فنسمع مثلا:
“الشغل مش عيب” أو ” لو بتشفلك شي شغلة تانية يا ابني مش أحسن” ، أو ان نسمع عبارة تااااااريخ بطريقة استهزائية وفيها سخرية ملطفة… عبارات عدة من تقليل الشأن يسمعها المؤرخ ولكن لا يخفى ايضا كم من المؤيدين طبعا لاختصاص التاريخ وعمله… لسنا هنا للحديث عن مواقف الناس من مهنتنا او اختصاصنا، لكنني أردت شرح أبعاد هذه العبارة بطريقة علمية وتاريخية وأدبية ونقدية وموضوعية.

طالع من كتاب التاريخ: نعم نحن في مجتمعنا اللبناني “طلعنا” من كتاب التاريخ وللأسف، أتعلمون لماذا؟ لأننا لم نسمع من مؤرخي الماضي والحاضر، الذين أخبروننا عن حروب الغرب، عن التقاتل الدموي بين فرنسا وألمانيا عقودا من الزمن وعن حربين عالميتين حصدتا  ملايين القتلى وانتهت الحرب العالمية الثانية في العام ١٩٤٥، لتنطلق بعدها بسنوات معدودة مسيرة الاتحاد الاوروبي وفتح الحدود بين الدول وقيام سوق اوروبية وعملة مشتركة، ووضع مناهج تربوية عصرية تواكب الحداثة والرقي الانساني وتبتعد كل البعد عن التعصب ونبذ الاخر، ورفض التقوقع والانانية والفوقية…

نعم لم نصغِ للمؤرخين الذين أخبروننا عن الثورة الفرنسية ونضالات المفكرين ودحر النظام الاقطاعي وتأسيس الدول المدنية ومحاربة الحكّام الفاسدين ونبذ الطائفية…
نعم طلعنا من التاريخ لأننا لم نسمع ولم نتعظ من المؤرخين حين أخبروننا كيف استطاع المجتمع الغربي فك قيود الاقطاع الديني والاجتماعي والسياسي… وكيف استطاع تأمين المساواة بين فئات الشعب وتأمين البنى الاجتماعية الضرورية لرقي الشعوب…

نعم طلعنا من التاريخ، لأننا لم نتعظ من تاريخنا اللبناني الحافل بالخلافات والفتن الداخلية من فتنة ١٨٤١ و١٨٤٥ الى الستين الى أحداث ١٩٥٨ وصولا الى الحرب اللبنانية في ١٩٧٥ وتداعياتها، وسواها من الأحداث الاليمة التي شرذمت مجتمعنا…
نعم طلعنا من التاريخ لأننا لم نتعظ من تجربة رمي أحضاننا في ارتباطات ورهانات خارجية كما حصل مثلا مع الامير بشير الثاني حين وقّع اتفاقية مع حاكم مصر في الربع الاول من القرن ١٩ وما الت اليه الامور لاحقا من تبعية عمياء لمخططات لا تشبه مجتمعنا، نعم لم نتعظ من ارتمائنا في احضان القناصل الاوروبيين حين حدّثنا اساتذة التاريخ عن المسألة الشرقية في القرن ١٩ وكيف تلاعب الغرب بمصالحنا وكيف ساهم هؤلاء في ضرب الصيغة الاهلية اللبنانية، نعم لم نتعظ من خفايا المؤتمرات الدولية التي حيكت فيها مؤامرات عدة كانت تصب في خارج المصلحة الوطنية، ولن اعددها نظرا لكثرتها. نعم لم نسمع للمؤرخين عندما حدثوننا عن ثورة الفلاحين ١٨٥٨ ونتائجها ومن بينها فرض المساواة والغاء الالقاب، فعدنا بعد فترة وجيزة لتكريس الشيخ والبيك والمير…، وطلعنا من كتاب التاريخ الذي حدثنا عن تضحيات الاجداد ونضالهم في سبيل العيش الكريم. نعم لم نتعظ من تجربة الرئيس فؤاد شهاب مثلا، الذي أرسى أسس دولة مدنية عصرية، فعدنا الى التناحر والتقاتل والى ضرب مؤسسات الدولة، نعم لم نتعظ من عظات الامام موسى الصدر فعدنا أيضا الى الخطاب الطائفي البغيض، وسواهما من الشخصيات الوطنية ومواقفهم النبيلة في شتى الميادين …

نعم لم نتعظ من تجربة انهيار الليرة امام الدولار اواخر الثمانينيات فسارعنا الى العمل الصيرفي متباهين بنباهتنا، نعم لم نتعظ من تجربة الخليج الذي وصل المريخ، فسارعنا الى الغوص في اعماق الجحيم ضاربين مفاهيم الدولة والاقتصاد والمجتمع…

نعم لم نسمع لأساتذة التاريخ حين حدثوننا عن الأزمة الاقتصادية العالمية سنة ١٩٢٩ وكيف تحكّم عملاء البورصة والصيرفة بأموال المودعين، فأوهموهم بداية بالربح السريع في تجارة الأسهم، فسارع الناس الى شراء اسهم في الشركات الاوروبية والاميركية، حتى ان الفقراء منهم استدانوا من المصارف بغية شراء الاسهم، وما هي الا فترة وجيزة حتى فاقت  قدرة الشركات على رد أرباح المساهمين نظرا لتضخم اعدادهم، فما كان من عملاء البورصة الا ان عرضوا بيع الاسهم بأبخس الاسعار للحفاظ على مدخرات شركاتهم، فكم من الاوروبيين الذين خسروا بيوتهم واموالهم واملاكهم… فلم نسمع من اساتذتنا ان تجارة الاسهم والبورصة محفوفة المخاطر ولا يقوى على خوض غمارها سوى قلة من الناس العالمين خفاياها…

نعم طلعنا من التاريخ لاننا لم نسمع كل تلك الاخبار والنصائح والعبر التاريخية وسواها، وبقينا على موقفنا بانتقاد المؤرخين واحيانا الاستهزاء بعملهم.

أما نحن أبناء هذه المهنة، نقولها وبشرف كبير، نحن من بين كثر؛ نُعتبر قدوة في مجتمعاتنا،  بوصلة توجّه النشء، عصارة فكر شعوب ومجتمعات مرت بتجارب عدة، نحمل في ذاكرتنا وفي جعبتنا احداث الماضي واخطائه ونجاحاته، نوجّه قدر ما استطعنا، ننقد للتحسين والتطوير قدر امكانياتنا، نتحدث بموضوعية عن احداث مرت بها شعوب وحضارات …

يا ليتنا نبقى في كتب التاريخ لنتعظ ونخرج منها بعبر ومواعظ اجتماعية ووطنية وفكرية عوض خروجنا الكلي من كتاب التاريخ… 

خاص جديدنا نيوز بقلم د. روني خليل

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

Privacy & Cookies Policy