The News Jadidouna

اللبنانيون يفرّون من بلادهم سعيا وراء حياة أفضل… افريقيا الوجهة الأمثل؟

العرب اللندية
في النبطية، أكبر مدينة في جنوب لبنان، ينتظر محمد رضا تأشيرته إلى كوت ديفوار. فلطالما حلم هذا الشاب البالغ من العمر 27 عاما بأن يصبح مهندسا، لكنه لم يتخيّل أبدا أنه سيضطر إلى قطع الآلاف من الكيلومترات للحصول على وظيفته الأولى في هذا التخصّص.

ويقول محمد “بعد حصولي على شهادتي مباشرة، بدأت في التقدم لوظائف في لبنان، لكنني وجدت فقط فرص تدريب غير مدفوعة الأجر التحقت بثلاث فرص تدريب، لكن لم تستأجرني أي من الشركات بعد ذلك”.

ويعاني لبنان ثالث أكبر دولة مثقلة بالديون في العالم، من أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه. ولا تكاد الأجور تساوي أي شيء والعمال يتساقطون في براثن الفقر بسرعة فائقة. ووفقا للأمم المتحدة، فقد تضاعف عدد الأشخاص غير القادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية، مثل الحصول على الغذاء الكافي، في العام 2020 إلى 55 في المئة من السكان.

وسط هذه الفوضى، لا توجد طريقة لمعرفة بالضبط عدد اللبنانيين الذين يحزمون حقائبهم، لكن هناك شيء واحد مؤكد ألا وهو أن الكثير منهم ينتقلون إلى الخارج. وهي ليست ظاهرة جديدة. ومع فرار اللبنانيين من المجازر والحروب منذ القرن التاسع عشر، أصبحت البلاد واحدة من أكبر مجتمعات الشتات في العالم، حيث يبلغ عدد اللبنانيين في الشتات حوالي 12 مليون نسمة، أي أربعة أضعاف عدد سكانه. ومن بين هذه المجموعة، انتقل مئات الآلاف من الأشخاص، الكثير منهم من جنوب لبنان، إلى أفريقيا، وخاصة كوت ديفوار ونيجيريا والسنغال وسيراليون وغانا.

ولا يعرف تحديدا عدد اللبنانيين الذين انتقلوا إلى غرب أفريقيا منذ بدء الأزمة الاقتصادية في لبنان عام 2019، لكن الأدلة تشير إلى أن العدد كبير.

وتؤكد جيهان عبدالرحمن جاد باحثة دكتوراه بمعهد البحوث والدراسات الأفريقية جامعة القاهرة، أن الجالية اللبنانية في أفريقيا أكثر الجاليات العربية في القارة عددا، وذلك لأسباب كثيرة تاريخية ومعاصرة، دفعت بمئات الآلاف منهم للهجرة إليها.

وتشير بعض الإحصائيات إلى أن 350 ألف لبناني على الأقل منتشرون عبر القارة، وتمثل ساحل العاج والسنغال ونيجيريا أهم أقطاب الجاليات اللبنانية المقيمة في أفريقيا. وغالبا ما أشاروا إلى أنفسهم على أنهم حلقة الوصل بين الأوروبيين والأفارقة في غرب أفريقيا، لهذا فهم منافسون للكثير من الجاليات الأخرى.

ويقول طيار من أصل لبناني يعيش في توغو، إن اللبنانيين يتكدسون في رحلاته إلى غرب أفريقيا، فيما أبلغت سفارة لبنان في نيجيريا عن “زيادة ملحوظة” في انتقال اللبنانيين إلى البلاد.

ويعيش والد محمد بالفعل في أبيدجان، حيث يمتلك مخبزا. ويقول “لم أقم بزيارة كوت ديفوار من قبل لكنني متأكد من أن الحياة هناك أفضل مقارنة بما هو موجود هنا. لقد أجريت الكثير من الأبحاث على الإنترنت وآمل أن ألتقي ببعض اللبنانيين بمجرد وصولي إلى هناك”. ويضيف “إنني أتطلع إلى بدء مسيرتي وبناء حياتي.. لدي الكثير من الأحلام”.

وفي غضون ذلك، يتطوّع في منظمة غير حكومية محلية توزع طرودا غذائية على العائلات الأكثر تضررا من الأزمة.

بدأت هجرة اللبنانيين إلى غرب أفريقيا قبل حوالي 150 عاما، عندما تعرض اللبنانيون لخداع من قباطنة السفن الفرنسية حيث وصلوا إلى شواطئ غرب أفريقيا ظنّا منهم أنها البرازيل أو الولايات المتحدة التي جذبت عشرات الآلاف من المهاجرين اللبنانيين في ذلك الوقت. واختلفت الروايات التاريخية حول أول مهاجر لبناني إلى غرب أفريقيا، حيث أكد مؤرخون أن غانا استقبلت أول المهاجرين اللبنانيين عام 1870، بينما يقول آخرون إن أول المهاجرين اللبنانيين كان إلياس الخوري يونس عام 1882، الذي وصل إلى سواحل نيجيريا.

ومع استمرار تفشي الوباء والركود الاقتصادي، أصبحت هجرة اللبنانيين إلى البلدان الأفريقية أسهل من تحقيق قفزة إلى أوروبا أو الولايات المتحدة، حيث إن السفر الجوي إلى القارة مستمر. وعلاوة على ذلك، في معظم الحالات في أفريقيا، يكون المستند الوحيد المطلوب للحصول على تأشيرة هو خطاب دعوة من قريب يعيش في بلد المقصد.

وبدأ المهاجرون اللبنانيون حياتهم في دول غرب أفريقيا، بالعمل في التجارة المتجولة أو ما يسمّى “الكشة” وهي صندوق أو حاوية فيه بضائع للبيع، ويستفاد منه كسرير في آخر الليل، وشيئا فشيئا، تطوّرت “الكشة” إلى محل تجاري، فمصنع ثم شركة ضخمة، وتوسّعت تجارتهم إلى المواد الغذائية والأقمشة والآلات الكهربائية، مرورا بتجارة الأسماك والأخشاب والبن، وصولا إلى الذهب والماس.

والآن وصلت الجاليات اللبنانية إلى الجيل الثالث في غرب أفريقيا، وأصبحوا يشكلون عنصرا هاما في تلك المجتمعات بما لهم من نفوذ اقتصادي كبير.

ويتحكّم اللبنانيون في حوالي 60 في المئة من القطاعات الاقتصادية الحيوية في كوت ديفوار؛ حيث يمتلكون أربعة آلاف مؤسسة من بينها 1500 مؤسسة صناعية يعمل فيها نحو 150 ألف مواطن من أهل البلاد. وهم يسيطرون على 70 في المئة من تجارة الجملة، و50 في المئة من تجارة التقسيط، و80 في المئة من شركات جمع القهوة والكاكاو وتصديرها، و17 في المئة من سيارات الأجرة، الأمر الذي حرصت قيادات البلاد المتوالية على التنويه والإشادة به، حسبما ورد في تقرير لموقع الجيش اللبناني.

ويروي عالم الأنثروبولوجيا الراحل فؤاد خوري أن مسؤول الهجرة أوقفه في مطار كوماسي في غانا. وعند سؤاله عن جنسيته أجاب دون تفكير “لبناني”. وروى خوري أن الضابط أمَالَ رأسه إلى الأمام وكرّر ببطء “نا-تيو-نا-لي-تاي؟”. وعندما قال خوري مرة أخرى “نعم!Le-ba-nese ” أخذ نفسا عميقا وقال بلمسة من الغضب “سيدي، أنا لا أسأل عن مهنتك!”.

ولم يكن تبادل خوري مع المسؤول الغاني حالة من الارتباك بين الثقافات، بقدر ما كان مثالا معبّرا عن كيفية دمج اللبنانيين في غرب أفريقيا لفترة طويلة في الجسد الاجتماعي ترتبط ارتباطا وثيقا بالتجارة بحيث تصبح أحيانا مرادفة لها.

وقد أتى معظم المهاجرين تقريبا من أسر فقيرة باعت كل ما تملكه أو ادخرته، لكي يتمكن العضو المهاجر من إرسال الحوالات المالية، لذا حافظوا على اتصال وثيق مع عائلاتهم في لبنان.

وتعتبر زرارية الواقعة على بعد 65 كيلومترا جنوب بيروت، مثالا على هذه التبعية. ورسميا يبلغ عدد سكان المدينة 15000 نسمة. لكن في الواقع، يعيش أكثر من ثلث سكانها في كوت ديفوار. وفي العام 2015، تمت إعادة تسمية الطريق الرئيسي في المدينة باسم “شارع أبيدجان”. “يعتمد اقتصاد المدينة بالكامل على الهجرة. ينشأ الشباب هناك على فكرة أن أبناء عمومتهم في أبيدجان أغنى منهم. وتذهب النساء إلى هناك لمساعدة أزواجهن. بطريقة ما، إنها حلقة مفرغة” هذا ما تقوله زوجة رئيس البلدية داليدا جزيني التي ولدت في السنغال، وهي واحدة من القلائل الذين هاجروا في الاتجاه المعاكس. وتضيف “بدافع حب الوطن”.

وكان هناك وقت استخدمت فيه الأموال المتدفقة من أفريقيا لبناء فيلات فاخرة. ولكن الآن مع وصول الأزمة إلى ذروتها، تعتمد البلدة بأكملها على الأموال من الخارج. لمنع أسر بأكملها من الغرق في براثن الفقر، أرسل المغتربون اللبنانيون المقيمون في أبيدجان حوالي 100 ألف دولار إلى ديارهم في الأشهر الأخيرة. وقام رئيس بلدية البلدة عدنان جزيني، بتوحيد وإعادة توزيع الأموال على حوالي 1000 عائلة محتاجة. ويقول “تغطي الأموال نفقاتهم اليومية والأدوية وفواتير المستشفى وتكاليف التعليم وما إلى ذلك”.

إرسال الأموال ليس بالأمر السهل. فقبل الأزمة، كان المغتربون يوجهون بعض أموالهم من خلال النظام المالي التقليدي. لكن خلال العام الماضي، كانت البنوك اللبنانية تقتصر السحوبات النقدية على بضع مئات من الدولارات شهريا فقط. وعلى الرغم من أن وكالات تحويل الأموال لا تزال مفتوحة للعمل، إلا أنه لا يوجد أي أثر لهذه المساعدة المالية القيمة في فرع ويسترن يونيون في الزرارية.

ويقول علي هاشم رئيس الفرع الذي قضى هو نفسه عشر سنوات في أبيدجان يعمل في مصنع بلاستيك حتى أصيب بالملاريا، إن “الغالبية العظمى من الأموال التي تتدفق إلى البلاد تأتي في شكل نقود. للالتفاف على رسوم العمولة، يتم جلب حقائب مليئة بالنقود إلى لبنان. الجميع يستخدم هذا النظام، وإلا فلن نتمكن من الاستمرار في العيش هنا”.

تظل مسألة المواطنة من أهم التحديات التي يواجهها اللبنانيون في بلدان غرب أفريقيا، ومنذ رحيل الأوروبيين، والأفارقة ينظرون إلى اللبنانيين على أنهم مجرد مجموعة أجنبية أخرى. لذا قامت الحكومات بمنح اللبنانيين الجنسية لكن بشروط.

وترتبط مسألة مستقبل الجالیة اللبنانية في غرب أفریقیا ارتباطا وثیقا بالحاضر والماضي، إذ یلعب التاریخ دورا مهمّا في تكییف تلك العلاقة، لذا فإن أفضل سيناريو بالنسبة إلى المهاجرين اللبنانيين هو القبول الكامل والاندماج في المجتمع الأفريقي. ومثلما كان الأفارقة متردّدين في قبول الجالية اللبنانية، كذلك قاوم اللبنانيون مثلا مسألة الاستيعاب للمجتمع الأفريقي، على عكس الجاليات اللبنانية المهاجرة إلى مناطق أخرى كالولايات المتحدة. وربما يعود ذلك إلى تردّد اللبنانيين المبني على تحيزهم لثقافتهم اللبنانية، والتي اعتبروا أنها تتفوق على الثقافة الأفريقية.

كما ارتبط اللبناني المهاجر بوطنه الأم من خلال زيارته المستمرة ومحاولته الدائمة للحفاظ على موروثاته الثقافية في بلاد المهجر، وعدم اندماجه الثقافي مع المجتمع الذي يعيش فيه، ويتجلّى ذلك في إصراره على تشييد المدارس اللبنانية أو إرسال أبنائه للتعلّم في لبنان.

وقد تمسك اللبنانيون المهاجرون بعادة زواج الأقارب، وعادة ما يقوم الآباء اللبنانيون بترتيب الزيجات لأبنائهم من عائلات لبنانية أخرى، لذا كان أمر الحجاب شائعا بين المسلمين في غرب أفريقيا، إلا أن الزواج من أفريقيات كان قليلا، ونادرا ما كان المجتمع اللبناني يعترف بأطفال الزيجات المختلطة.

وأدى احتفاظ المسيحيين اللبنانيين المقيمين في نيجيريا بهويتهم المستقلة في مسألة الدين إلى بنائهم الكنيسة المارونية اللبنانية “سيدة البشارة” في أبيدجان عام 2000، بعد أن ظلوا لسنوات يصلون مع السكان المحليين في كنيسة سانت ماري الكاثوليكية.

أما من الناحية السياسية، فلم يكن للجالية اللبنانية تأثير في الحياة السياسية، لكن استخدم بعضهم قوتهم الاقتصادية لإقامة علاقات مع المسؤولين الحكوميين، فيما قرر بعضهم الآخر خوض غمار الحياة السياسية.

ولا تخلو قصة نجاح هجرة اللبنانيين إلى غرب أفريقيا من الأزمات، إذ وجهت للبنانيين اتهامات بتحقيق مكاسب اقتصادية مبالغ فيها أو محاولة تحقيق نفوذ سياسي، ودفعوا ثمن ذلك بحيث أصبحت مؤسساتهم الاقتصادية عرضة للنهب، كلما اندلعت أحداث شغب ضد السياسات الحكومية، كما حدث في ليبيريا (1989)، وفي الغابون (1985)، ومالي (1991) وفي السنغال (1989) وساحل العاج (1999، 2002، 2004، 2007، و2011).

ويصطدم نجاح المهاجرين اللبنانيين مع أماني الأفارقة الذين شعروا بأن مجال نشاط اللبنانيين يمكن أن يملأه الأفارقة أنفسهم، ولذا حاول اللبنانيون كسب ودّ السلطات الأفريقية فتبرعوا بالأموال للمشاريع الخيرية وبناء المساجد والمستشفيات، وبالرغم من ذلك لم ينالوا رضا الأفارقة.

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

Privacy & Cookies Policy