The News Jadidouna

من يوقف القضاء الشارد الى حضن السياسيين؟

كتب جورج جريج في الجمهورية:
مشهد مقرف، لوحة تصوّر كل النتوءات، تابلو ينقل كل العيوب.

بلغ الانهيار الذي أتى على السلطتين التشريعية والتنفيذية، وبالإذن من المكابرة التي تتحكّم بهذه وتلك، مشارف السلطة القضائية التي مقدَّراً ومتوَسماً لها أن تكون مصدر إنقاذ لا مَنبت أزمات إضافية تسابق الفساد السياسي، وتنافس الإفلاس المالي، وتزاحم التعثر الإقتصادي.

إنها اللحظة المناسبة أن يفرض القضاء فيها وجوده، وينتزع استقلاليته، وينزع عن كل شارد الى حضن السياسيين صفة قاضٍ، وإلا فالقضاء ينازع من دون أن يصارع، والقضاء يصبح حتماً فاقداً خاصّتيه: العلو وحرام أن يسكن القضاء الدنو، والاستقلال وحرام أن يرقد القضاء في قبر السياسة وتحت أقدام فروعها مهما دنت.

إنها لجريمة مشهودة أن يُستكتب القضاء، وهو من عُقدت له كتابة الأحكام ولفظها، وحرام أن يُجنَّد في اصطفاف لا يشبهه، وهو المعوَّل عليه توحيد الوطن لا تفريق الساحات الى شوارع، وتفريع الشوارع الى رصيفين وأكثر. فهل يسمح القضاء بأن يكون محرِّكاً ولو غصباً عنه، ولو من دون استئذانه، لشارعين تحت نوافذ قصر العدل، ولرصيفين لبيروت، «الشرقية والغربية»؟ هذه استباحة سياسية واجتياح طائفي لمنطقة دستورية تحكم باسم الشعب اللبناني تحت أشعة العلم والضمير، لا بأمر مكالمة ولا بعد ملاكمة. هكذا حلمت بالقضاء محامياً ونقيباً للمحامين، ولن أحيد عن هذا الحلم، ولن أصدّق تحوّله الى كابوس يجعل من القضاء والجيش، آخر معقلين سياديين، هدفين مباشرين بعد الإجهاز على الليرة.

إنّ سهيل عبود ماروني في عين كفاع ولبناني في رئاسة مجلس القضاء الأعلى، ولا ينفع الندم على تسميته لفشل احتوائه أو تحييده، أو تعجيزه، أو تيئيسه، أو إحراجه لإخراجه. والمشكلة أن أهل السياسة لا يدركون أن القضاء يشتغل عدالة، وأنه لا يجب أن تشتغل به السياسة. وانّ رئيس مجلس القضاء إذا ما جاء بتسوية، فسيقضي ولايته تسووياً، فتدفع العدالة الفدية ويتحمّل المتقاضون تبعات قضاء هالِك. كما أن غسان عويدات ليس وديعة الرئيس سعد الحريري في القضاء، وغادة عون لا يجب أن تكون امتداداً للرئيس ميشال عون لا بالحسب الحزبي ولا بالنسب العائلي.

ولاختصار المعاناة، فإنّ الفرج لن يأتي من واضعي اليد على القضاء، بل من انتفاضة القضاء على وضع اليد.

لن يأتي الفرج من سالبين بالكسر والخلع لهيكل العدالة، من أي جهة أتوا، ومن أي «طريق» أو «خندق» أو «سنتر»، بل من معركة ردّ الاعتبار واسترداد الوقار لمرفق لا تنهض الدول الّا بصحته وصحوته.

لن يأتي الفرج من منظومة ثبت فسادها بحكم قضائي أو من دون حكم، بل من ثورة تنهض من لدن القضاء، تشبه ثورة 17 تشرين الخارجة من رحم الوجع والجوع والتوق الى دولة تشبه دول العالم.

فليكن للقضاء دوره في رسم معالم دولة الغد، ويحاول نادي القضاة أن يكتب فرضه في هذا المجال.

فليكن رفض لمنطق المحاصصة، وللتعامل مع حكومة لبنان كديوانية، أو في أحسن الأحوال كمجلس ادارة.

فليكن رفض لحكومة أنصبة إرثية بثلاث ستات أو بثلاث ثمانيات، وفي اعتقادنا وايماننا ووجداننا أن لبنان حيّ، رغم موته السريري مالياً واقتصادياً، ورغم تفقير شعبه وتجويعه.

فهل سيظهر القضاء مناعته ويحتكم الى «الكتاب» ونصوصه ومواده ومندرجاته ومفرداته؟

أم ينساق للتلقيح بنقل الموروثات السياسية الى أجنتّه، والعمل بموجب ميثاقية مشوهة، وثلث معطِّل، ونصاب ينعقد على القطعة أو يُفقد بالسياسة؟

فليعلن اليوم القضاء الواقف أن ما يجري في عروقه دم قضائي صرف خلال الدوام الرسمي، ودوام النيابات العامة وقضاة التحقيق هو ٢٤ ساعة في اليوم و٧ أيام في الأسبوع، لا إشراك لحزب أو تيار فيه، الا مرة كل ٤ سنوات.

أما القضاء الجالس فلنا معه كلام آخر وفي مناسبة أخرى.

فليعلن القضاء اليوم أنه سلطة، ولينصرف الى ما ينتظره الموجوعون: جلاء الحقيقة في جريمة المرفأ قبل أي عمل آخر، وكشف الفساد والهدر قبل أي فعل آخر، والانتصار لذاته المستقلة قبل أي انتماء آخر.

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

Privacy & Cookies Policy