The News Jadidouna

صواريخ إيران العابرة والمبادرات الروسية

صواريخ إيران العابرة والمبادرات الروسية

منذ عقود عندما أصبحت المحروقات هي محرك التنمية العالمي، اكتسبت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أهمية جيوسياسية هائلة.

وأصبحت ملعباً سياسياً وساحة لصراعات شتى تسعى جميعاً للوصول إلى موارد الطاقة.

لكن الاهتمام بالمنطقة كثيراً ما ينزلق إلى منافسات شرسة، وأحياناً غير نزيهة، من قوى ترغب في الهيمنة والسيطرة والإملاءات دفاعاً عن مصالحها دون الاكتراث بمصالح القوى الأخرى، أو بمصالح شعوب المنطقة. وتلجأ تلك القوى إلى الألاعيب والدسائس والمؤامرات حفاظاً على مصالحها في المنطقة، وتبتعد في كثير من الأحيان عن الدبلوماسية والحصافة، فتعاني الشعوب.

إن السياسة الروسية تتسم بشكل عام، وفيما يتعلق بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل خاص، بالالتزام بحل جميع القضايا والخلافات والنزاعات بالطرق الدبلوماسية، استناداً إلى معايير ومحددات القانون الدولي وفي ضوء الالتزام بجميع القرارات الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة.

ولهذا السبب تحاول روسيا دائماً ألا يكون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ساحة لصدام مصالح القوى العظمى، وتبحث دائماً عن توازنات للمصالح، وتعزيز لهذه التوازنات بين دول المنطقة، وكذلك بين الشركاء الموجودين خارج الهياكل الإقليمية.

من هنا يأتي تطوير مفهوم الأمن في إقليم الخليج، الذي تحدث عنه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، خلال جلسة خاصة لنادي “فالداي” حول الشرق الأوسط، والتي حملت عنوان “الشرق الأوسط بحثاً عن النهضة المفقودة”، وعقدت في 31 مارس الماضي.

يقول لافروف: “إذا تمكننا من الجمع بين الممالك العربية في إقليم الخليج وإيران حول طاولة مفاوضات واحدة، ومعهم كذلك هياكل الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن والاتحاد الأوربي، سوف يكون بإمكاننا ساعتها الحديث عن مفاوضات وقرارات بناءة ومؤثرة”.

وعرض الوزير الروسي كذلك مبادرة “هرمز للسلام” التي تقدمت بها إيران، وتشمل الدول المطلة على الخليج، والتي يرى أنها يجب أن تضمن من قبل اللاعبين الخارجيين المؤثرين على المنطقة. وكذلك المبادرة الصينية التي تحمل عنوان “منصة الحوار متعدد الأطراف” في الخليج. والمقترح الفرنسي لما يسمى “المهمة الأوروبية للرقابة البحرية على مضيق هرمز”، حيث أشار إلى ضرورة الحاجة إلى الاجتماع وتوحيد الأفكار والسعي لتحقيق توازن في المصالح، والتي بدونها سوف يكون كل شيء “غير مستقر وهش”.

كما نوه الوزير إلى أن اتفاق الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن غالباً ما يقابل بالترحاب من بقية الدول، ذلك أنه يعني توازن المصالح ليس فقط بين هذه الدول، وإنما بين حلفائها، وشركائها، وأغلبية دول العالم، وهو ما يؤدي في النهاية إلى التوصل إلى اتفاقات واقعية وقابلة للتنفيذ على الأرض.

لهذا تبرز أهمية العودة لروح التعاون بين الدول الخمس، والسعي المستمر لإيجاد نقاط التفاهم والتلاقي والأرضيات والمفاهيم المشتركة.

وعلى الرغم من أنه لا أحد “يرفض” من الدول الخليجية فكرة الحوار مع إيران، وفقاً لما قاله وزير الخارجية الروسي، إلا أنه لا يوجد إجماع داخل مجلس التعاون الخليجي حول الاستعداد لحوار مع طهران، وتلك نقطة أساسية. فجوهر الأمر هو الحصول على موافقة “الستة” العرب بأكملهم على حوار مباشر مع إيران، دون شروط مسبقة.

ولعل ما صدر عن وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، حول فرص إطلاق حوار بين المملكة العربية السعودية وإيران، والحديث عن إمكانية تطور العلاقات بينهما إلى “شراكة”، إذا ما أوقفت إيران أنشطتها التي “تتسبب في زعزعة الاستقرار في المنطقة، وسلوكها العدواني”، ربما يمنح قدراً من الأمل حول ذلك الحوار في المستقبل.

في هذا الصدد يبدو الأمر معقداً، حيث تطالب إيران الولايات المتحدة الأمريكية بالتخلي تماماً عن العقوبات، وبعدها تعيد طهران التزامها بكافة المعايير المنصوص عليها في الاتفاق النووي الإيراني (خطة العمل الشاملة المشتركة لضمان سلمية البرنامج النووي الإيراني)، في غضون أيام قليلة. في المقابل، يقول الأمريكيون إنه من الضروري أولاً العودة إلى الاتفاق بالكامل، وبعد ذلك “سوف يفكّرون في العقوبات التي يجب إضعافها، وما يجب القيام به”. كذلك هناك خطة عمل شاملة مشتركة إضافية، لا تتضمن فحسب الاتفاق النووي الإيراني، وإنما تمتد إلى برنامج الصواريخ، وهو ما يسمى “سلوك إيران في المنطقة”. وهنا الطريق المسدود.

لا بد من العودة إلى الاتفاق النووي دون أي تعديل، وعلى النحو الذي أقره مجلس الأمن، وأن تبدأ بالتوازي عملية المفاوضات بشأن نظام الأمن والتعاون في منطقة الخليج وما حولها، وفي سياق هذه المحادثات يمكن طرح قضية الصواريخ، ولكن ليس من زاوية الصواريخ الإيرانية فحسب، وإنما الصواريخ في المنطقة بشكل عام، والطريقة التي تضع بها دول المنطقة نفسها في مواقف الأزمات المختلفة، وهنا توجد مطالبات متبادلة، وليست من جانب واحد فقط. وقد صرح لافروف بأن هناك وساطة فرنسية بهذا الصدد، بينما اقترحت روسيا “خارطة طريق” غير رسمية تعود بموجبها كل من إيران والولايات المتحدة الأمريكية خطوة بخطوة إلى الوفاء بالتزاماتهما.

لا بد هنا أن نلتفت إلى التطور الخطير المرتبط بقرار القيادة في إيران من اليوم وصاعدا بالرد على أي استفزازات عسكرية بقصف أهداف إيرانية أينما كانت، باستهداف المصالح الأمريكية والإسرائيلية بصواريخها التي يبلغ مداها 2000 كلم، وتتمتع بدقة عالية، وهو ما ينذر بإمكانية نشوب حرب إقليمية واسعة تهدد بتداعيات كارثية خاصة على دول الخليج، حيث تتواجد فيها القواعد الأمريكية.
لهذا يجب على الجميع العمل فوراً على وقف الاعتداءات التي تقوم بها إسرائيل على الأراضي السورية، وتثبيت مبدأ احترام سيادة الدول، وإدانة اعتداءات أي أطراف خارجية.

في الملف السوري، استضافت العاصمة البلجيكية بروكسل أكثر من 50 دولة و30 منظمة في مؤتمر افتراضي لإغاثة السوريين لم تدع إليه سوريا! وذلك مؤشر خطير للغاية، بما في ذلك بالنسبة لهيئة الأمم المتحدة. وهي مثال صارخ على استخدام الولايات المتحدة الأمريكية للأمم المتحدة كأداة تضغط عليها لتمرير أهدافها السياسية.

فعندما دعت الحكومة السورية الشركاء الأجانب، بما في ذلك هيئة الأمم المتحدة، إلى مؤتمر اللاجئين في نوفمبر الماضي، والذي كان يدعو إلى تهيئة الظروف لعودة اللاجئين إلى ديارهم، فعل الأمريكيون كل ما بوسعهم للحد من عدد الدول المشاركة في المؤتمر، ومع ذلك، فقد كانت هناك دول، بما في ذلك الإمارات والجزائر، التي أرسلت وفودها إلى هذا المؤتمر.

كذلك أجبرت الولايات المتحدة الأمريكية هيئة الأمم المتحدة على تقييد مشاركتها في ذلك المؤتمر بصفة مراقب فقط، أي أنه لم تكن هناك مشاركة كاملة من جانب الهيئة. الآن، عقد الاتحاد الأوروبي مؤتمره الخاص، بمشاركة من هيئة الأمم المتحدة، بل وتحدث الأمين العام للهيئة، أنطونيو غوتيريش، داعياً الدول إلى المساهمة والمساعدة، وهو أمر لا غبار عليه بالمرة، سوى أنه لم تتم دعوة الدولة العضو في الأمم المتحدة، والممثل الشرعي عن الشعب السوري، الجمهورية العربية السورية. بمعنى أننا أمام خصخصة واضحة المعالم للمنظمات الدولية، لخدمة مصالح وأجندات قوى دولية.

كذلك فقد خصص مؤتمر بروكسل أعماله لجمع الأموال في المقام الأول، من أجل احتواء اللاجئين في تركيا والأردن ولبنان، وكذلك لمساعدة المواطنين في الأراضي التي “لا تسيطر عليها الحكومة السورية”! أي أن هذا “المؤتمر الإنساني” يختص بمجموعة من اللاجئين دوناً عن غيرهم، في انتهاك صارخ لقواعد القانون الدولي الإنساني، والتي تفترض مسبقاً حل جميع هذه القضايا بالاتصال المباشر مع حكومة الدولة المعنية. إنها ازدواجية المعايير في الغرب، وحينما تقارن رد فعل الغرب على مؤتمر عودة اللاجئين إلى سوريا، وكيفية عقد مؤتمرهم الخاص دون دعوة رسمية لدمشق، يمكن حينئذ أن تتفهم موقف الرئيس الأسد وحكومته.

إن الوضع في سوريا يشبه “صراعاً متجمّداً” إلا أن هذا التجمد لن يصمد للأبد، والوضع غير مستقر وهش للغاية، لأنه محفوف بانهيار الدولة، وهو أمر مأساوي يتعيّن علينا جميعاً أن نتجنبه، لأن تداعياته سوف تتخذ أبعاداً إقليمية لا يمكن التكهن بها.

لقد اتخذت روسيا قرارها بإرسال القوات العسكرية إلى سوريا استناداً إلى طلب رسمي من الحكومة السورية في إطار اتفاقية التعاون العسكري الموقعة بين الطرفين، التي تسمح لأي من الطرفين طلب المساعدة العسكرية من الطرف الآخر حال الاضطرار إلى ذلك. وقد نجحت روسيا في تغيير موازين القوى على الأرض وتخلصت من تهديد داعش الذي عجزت قوات التحالف عن التخلص منه لسنوات، وتوصلت بمشاركة طرفي “مسار أستانا” الآخرين (تركيا وإيران) من التوصل إلى مناطق التهدئة ووقف إطلاق النار.

إلا أن التدخلات الأمريكية في شمال شرقي سوريا، ووضع الأكراد هناك، يسبب قلقاً في المنطقة المحيطة بأسرها، فلا توجد وحدة في مجتمع الأكراد السوريين نفسه، حيث أن هناك هياكل لا تخفي تعاونها مع حزب العمال الكردستاني، وهناك هياكل أخرى يحاول الأمريكيون التوفيق بينها وبين توجهاتهم المختلفة.
على الجانب الآخر، تتعامل تركيا مع كل ما يحدث بقسوة، بينما يحاول الأتراك مع الأمريكيين التوصل إلى حلول وسط، حيث يحاول الأمريكيون إقناعهم بعدم الزج بالجميع في خانة الإرهابيين.

من الجانب الروسي، تؤكد روسيا وتركيا على حد سواء على الوقوف بقوة وبحسم وراء وحدة وسلامة أراضي الجمهورية العربية السورية، حيث شاركت روسيا مؤخراً في اجتماعاً ثلاثياً ضم كل من روسيا وتركيا وقطر في العاصمة القطرية الدوحة، واعتمد الأطراف بياناً وزارياً ينص بوضوح على عدم قبول أي تجاوزات لتشجيع أي نزعات انفصالية في سوريا.

في غضون ذلك يحظر الأمريكيون على الجميع تقديم أي سلع اقتصادية أو حتى مساعدات إنسانية للأراضي التي تسيطر عليها الحكومة في شمال شرقي سوريا، في الوقت الذي يطوّرون فيه بنشاط الضفة الشرقية للفرات، حيث يتواجدون. أي أنهم ينشؤون سلطات محلية هناك، ويستخدمون عائدات بيع المشتقات الهيدروكربونية المسروقة والحبوب وغريها. ويصرّون على استثمار الدول العربية المجاورة لسوريا في تلك الأراضي. فإذا كانت الاستراتيجية هي خلق حياة مزدهرة في تلك المناطق دون غيرها، ألا يدعو ذلك للتساؤل حول الخطط الأمريكية لإفقار بعض أجزاء الشعب، من أجل إسقاط “النظام المكروه”؟!
تتزامن هذه الخطط الخبيثة مع استفزازات استعراضية أخرى من الجانب الإسرائيلي بالتنسيق مع واشنطن (وهل من الممكن أن تقوم إسرائيل بقصف الأراضي السورية دون تنسيق مع ربيبتها الولايات المتحدة الأمريكية؟)، وهو ما يكاد يحدث بالتوازي مع الاستفزازات الأوكرانية لإقليم الدونباس، الذي يقطنه 400 ألف مواطن أوكراني يحملون الجنسية الروسية، وحشد القوات على الحدود مع الإقليم، فيما يبدو استفزازاً متعمّداً يأتي بعد تأكيدات أمريكية من الرئيس الأمريكي ووزير دفاعه بدعم أوكرانيا ضد روسيا حال نشوب حرب. يأتي ذلك ضمن خطة موسعة من الناتو لاستنزاف القدرات الدفاعية الروسية، لتنفيذ هجمات عدائية ضد روسيا التي يصنفها الناتو بأنها “التهديد الأساسي له خلال العقد القادم”.

إن روسيا، على أي حال، لا تلتفت إلى الصغائر، ولا تضع أمامها أي هدف لصدام عسكري مع أمريكا أو أي من حلفائها في الشرق الأوسط، وتتلخص مهامها ومساهماتها العسكرية هناك في الحفاظ على السلام والأمن وتقديم المساعدات الإنسانية، وسعيها في حل نزاعات المنطقة، وتحرير كافة الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك تحرير شمال شرق سوريا من التواجد العسكري الأمريكي غير الشرعي بالطرق السلمية، واستناداً إلى القوانين ومقررات الشرعية الدولية.
يتساءل البعض حول “ذنب” روسي لما حدث في ليبيا، ولهؤلاء نقول إن الخطأ الوحيد الذي ارتكبته روسيا في ليبيا ربما هو عدم تصرفها هناك كما فعلت في سوريا، ربما لم يكن ليحدث ما نراه الآن. وهنا نذكر بامتناع روسيا عن التصويت في مجلس الأمن على قرار إغلاق المجال الجوي الليبي، وعدم السماح للطائرات الليبية بالتحليق في أجوائها واستخدام القوة لمنع ذلك. ربما لو كانت العلاقات بين روسيا وليبيا ترقى إلى مستوى الاتفاقية العسكرية بين البلدين، لكانت روسيا قد استخدمت الفيتو ضد هذا القرار، ومنعت مجلس الأمن من استصدار هذا القرار، الذي استخدمته واشنطن فيما بعد لقصف جميع المناطق في ليبيا وتحويل البلاد إلى ما هي عليه الآن.

على الرغم من كل الصعوبات في الشرق الأوسط، إلا أننا نلمح تطورات إيجابية في بعض الملفات، وخاصة فيما يتعلق بسياسة بعض الدول العربية تجاه الأزمات الليبية واليمنية واللبنانية والسورية ومستقبل العلاقات مع تركيا وإيران. ويكفي أننا أصبحنا نرى في سياسة المملكة العربية السعودية حذراً وحساسية في التعامل مع هذه الأزمات، سعياً منها في القيام بدور جديد لإنهاء كل هذه الأزمات على نحو سلمي، اعتماداً على تنفيذ قرارات هيئة الأمم المتحدة الخاصة بها، وهو مؤشر إيجابي للغاية، يساعد في استعادة دور جامعة الدول العربية، والتحالف العربي للمساهمة في مساعدة شعوب المنطقة للخروج من أزماتها الإنسانية المتفاقمة، وهو ما سيؤثر بشكل فعّال على استمرار استغلال ونهب القوى الخارجية لثروات المنطقة لخدمة مخططاتها وأهدافها الجيوسياسية.

رامي الشاعر – كاتب ومحلل سياسي – روسيا اليوم

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

Privacy & Cookies Policy